lundi 28 mars 2011

الأزمة الاقتصادية العالمية : الأسباب والنتائج.


مداخلة القيت في شهر أفريل 2009 بالاتحاد الجهوي بنابل بمناسبة إحياء اليوم العالمي لمناهضة الامبريالية.
لقد كانت الازمة الإجمالية التي هزّت الاقتصاد العالمي مدار اهتمام الجميع وهو ما يدفعنا إلى عرض وجهة نظرنا في الموضوع ومحاولة تفسير هذه الأزمة وتلمّس النتائج المترتّبة عنها. ونعتقد أن منطلق الفهم يستوجب عرضا سريعا لتاريخ الرأسمالية وخصوصا طورها الامبريالي منه. إنّ هذه العودة إلى التاريخ لا تهدف إلى عرض الأحداث التاريخية في حدّ ذاتها بقدر ما نعتقد أنّ البذرة التي ألقي بها في أرض الرأسمالية هي التي منحتنا ثمارها المتعفّنة اليوم بعد جملة من التحولات والتراكمات الكثيرة التي شهدها تاريخ الراسمالية كنظام اجمالي عالمي.
يجدر التنويه بداية إلى القطيعة الكبرى التي أحدثتها الثورة الصناعية في انقلترا وعموم أوروبا في مرحلة أولى والولايات المتحدة واليابان بعد ذلك. فقد كان الاقتصادي الرأسمالي قبل هذه الثورة يقوم على تلبية الحاجات فأصبح بعد ذلك بفضل الصناعة والمكننة وازدهار التقنية يحقّق فائضا هامّا يتجاوز حجم الرواج في السوق المحليّة تجاوزا كبيرا. لقد كان هذا التراكم الكمي والنوعي للانتاج العنصر المحدّد في تطوير الراسمالية من طورها المحلّي إلى الطور الإمبريالي. واستتبع ذلك تحوّل العنف والهيمنة السمتان الملازمتان للرأسمالية من المستوى المحلي لينتشرا على الصعيد العالمي فكان الاستعمار وإخضاع الأسواق الجديدة عنوة قصد ترويج الفائض من الانتاج. وتلازم ذلك مع استغلال الثروات الطبيعية ومقدّرات الشعوب الدول التابعة المدمجة في هذا النسق الكوني. كما تلازم ذلك أيضا مع ازدهار صناعة التسلّح لإخضاع الشعوب وضمان ديمومة النظام المفروض عليها.
لقد فرض هذا التحوّل في النظام الرأسمالي تقسيما عالميا للعمل مازلنا نخضع له في حقيقة الأمر فمنذ القرن التاسع عشر بقي المركز مركزا والمحيط محيطا تابعا لا يخرج عن فلك النظام الممركز في الثالوث الغنيّ : أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان.
إنّ إلقاء نظرة سريعة على طبيعة الراسمالية اليوم تقودنا إلى الإقرار بأنّ النظام لم يتغيّر في جوهرة وما تغير إنّما هو أشكال الهيمنة فقط أمّا البنية فهي ذاتها دائما. غير أنّ هذا الثبات لا يعني عدم حدوث تغييرات جزئية دون أن يتغيّر الجوهر لذلك يمكننا القول إنّ تاريخ الرأسمالية هو تاريخ أزمات وحلول لهذه الأزمات من داخل النظام وذلك بالتصرّف في الأزمة وايجاد المخارج منها دون أن ينهار النظام بل العكس هو الذي غالبا ما يحصل إذ كثيرا ما تستعيد الرأسمالية عافيتها بعد كلّ وعكة تتعرّض إليه.
هناك طبعا أزمة الثلاثينات من القرن الماضي التي أدّت إلى الحرب العالمية الثانية فقد كان النظام فعلا مهدّا بسبب بروز الحركات العمالية المقاومة وحركات التحرر الوطني وازهار الحركة الشيوعية... ولكنّه مهدّد كذلك بالحرب وصراع الامبرياليات.
أدّت هذه الأزمة العميقة إلى ظهور الكينزية التي انقذت النظام من الانهيار وضخّت فيه دماء جديدة بالعودة إلى الدولة الضابطة والمتدخّلة في تنظيم الاقتصاد. وكانت الفترة المتدّة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى هاية السبعينات من نفس القرن فترة "الرفاه" (les 30 glorieuse).
يمكن الحديث عن منعطف هام في النظام الرأسمالي انطلاقا من نهاية السبعينات وتحديد مع قدوم ريغن في الولايات المتحدة وتاتشر في بريطانيا حيث قامت تميّزت سياستهما بالتخلّي عن دولة الرعاية لتمّ إطلاق العنان للتبادل الحرّ والعودة إلى أصل النظام كما كان آدم سميث قد ضبطه : دعه يعمل .. دعه يمرّ.
لقد سيطر منذ ذلك التاريخ المنوال النيوليبرالي سياسيا واقتصاديا وتعاظم دور المؤسسات المالية والسياسية الدولية التي تقودها الامبريالية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، المنظمة العالمية للتجارة، الحلف الأطلسي، مجموعة الثماني ..الخ). وبالفعل، فقد تحوّلنا من الكينزية إلى العولمة الراسمالية وذلك بإدماج معظم البلدان وإخضاعها إلى منطق التبادل الحرّ. وهناك عاملان آخران ساعدا على ذلك هما التطوّر الكبير لتكنولوجيا المعلومات وانهيار المنظومة المسمّاة اشتراكية وتراجع الحركات العمالية واليسارية. فكانت أسس النظام إطلاق العنان لقانون السوق وتحييد الدولة واكتفاؤها بالدعم السياسي والعسكري وضمان التبعية والتأطير الأمني. إنّ الانتصار الكليّ للنيوليبرالية جعلها تعتبر أنّ العودة إلى تدخّل الدولةة وتكليفها بدور تعديلي هرطقة وبيروقراطية .. فالدولة تكتفي بذلك الدور الذي يضطلع به رجال المطافئ لا غير.
إنّ هذا الانتصار الساحق لنظرية فتيان شيكاغو كان مصاحبا بانبثاق أزمات متكررة لأنّ ذلك من طبيعة النظام الرأسمالي باعتباره نظاما يخضع إلى قانون مركّب : النموّ والأزمة. ونذكر على سبيل المثال أزمة المكسيك (1994-1995) والأزمة المالية الآسيوية (1997-1998) والتي كان لها أثر كبير على عموم النظام وأزمةروسيا (1998) والبرازيل (1999) وتركيا (2000) والأرجنتين (2001- 2002).
رغم حدّة هذه الأزمات فإنّ تأثيرها بقي محدودا لسبيين على الأقلّ : كلها أزمات شملت الأطراف ولم يكن لها كبير الأثر على المركز ثم إنها بقيت أزمات مالية تحديدا ناجمة عن المضاربة في الأسواق المالية وفرار الرساميل من الجنوب إلى الشمال طلبا للأمان دون ان يعني ذلك بطبيعة الحال انعدام الاجتماعية الوخيمة ولعل مثال الأرجنتين أبرز دليل على ذلك.
يمكن القول إنّ هذه الأزمات كانت مقدّمة واضحة للأزمة الإجمالية الراهنة.
حين نروم فهم الأزمة الحالية نجد أنّها في حقيقة الأمر متصلة ببنية النظام إذ على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة تميّز رأس المال بالانصراف نحو تحقيق الربح الأقصى الممكن فكان التوجّه إلى المضاربات المالية (يصل حجم المضاربات المالية في الأسواق المالية حوالي 1200 مليار دولار). أي أنّ جزءا كبيرا من رأس المال صرف النظر عن الاستثمارات المنتجة للبضائع والخيرات التي من شانها أن تلبّي الحاجيات الاجتماعية وتوجّه غلى البنوك والأسواق المالية وهو ما يعرف بالفقاعة المالية وحين تنفجر تلك الفقاعة فلن نجد إلاّ الفراغ بطبيعة الحال لتراجع نسبة الاستثمار المنتج وتطور نسبة الاستثمار المالي
هناك كذلك سبب مباشر لاندلاع هذه الأزمة مرتبط بالقروض العقارية غير المأمونة في الولايات المتحدة (subprime) وهي قروض تمنحها البنوك دون أن تتأكّد من القدرة على التسديد على مدى 30 سنة وعادة ما تكون السنة الأولى والثانية بنسبة فائدة ضعيفة ثمّ يقع التفاوض مع الحرفاء وقد وصلت نسبة الفائدة إلى 25 بالمائة وحتى 40 بالمائة. ثمّ غنّ ما صبّ الزيت على النّار هو تحكّم السماسرة بهذه القروض بتحويلها إلى سندات مالية (titrisation) وبيعها إلى البنوك.
لقد أدّى العجز عن تسديد هذه القروض إلى انخفاض سعر العقارات واختلال التوازن بين العرض والطلب فالأغلبية كانت تسعى إلى بيع منازلها في مقابل ندرة الطلب. كما أدّى ذلك بدوره إلى عدم قدرة البنوك على استرجاع الأموال ممّا زعزع الثقة وأدّى غلى نزيف مالي فكان انهيار وال ستريت في سبتمبر 2008 وتلتها بعد ذلك البورصات العالمية.
كانت الأزمة في منطلقها إذن مالية غير أنّه هذه المرّة ضرب صميم المركز ولم تكن طرفية كأزمات السنوات السابقة من عشرية التسعينات وبداية سنوات الــ 2000. واستتبع ذلك أن اثّر الإفلاس بشكل كبير على الاستثمار وادّى إلى ركود اقتصادي وتراجع نسب النموّ التي أصبحت سلبية. وبالتالي تراجع الطلب والاستهلاك نظرا إلى تراجع الأجور والقدرة الشرائية.
لقد تحوّلت هذه الأزمة من أزمة مالية إلى أزمة اقتصادية اجمالية شملت الاقتصاد الحقيقي والانتاج (effet de dominos).
هكذا اصبحت الأزمة هيكلية متوسّعة من المجال المالي إلى مجال الاقتصاد الكلي ولم تقف عند حدود وال ستريت أو الولايات المتحدة وبنوكها بل ضربت أمواج التسونامي المالي كلّ العالم نظرا إلى أنّ مجمل البلدان مندمجة في مسار العولمة الرأسمالية. فقد توسعت الأزمة جغرافيا لتشمل بلدان الجنوب فتراجع النمو الاقتصادي في المركز وهو ما أدى إلى نقص الطلب على المواد الأولية من الجنوب مما أدى بدوره إلى انهيار الأسعار -كالبترول مثلا- في الاسواق العالمية. وقد استتبع ذلك أيضا تراجع واضح في احتياطات الصرف وهو ما جعل بلدان الجنوب التابعة تسعى إلى رفع صادراتها للحفاظ على توازنها المالي والتجاري ممّا يعطي للأزمة بعدا آخر وهو تدمير البيئة واستنزاف الثروات وهدر حقوق الأجيال القادمة. وبذلك تحوّلنا من أزمة مالية تعلقت بضمانات قروض السكن في الولايات المتحدة إلى ازمة غذائية واقتصادية تعصف بعموم الكوكب.
أيّ انعكاسات لهذه الأزمة على تونس؟ وما مدى فعاليّة الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لتجاوزها؟
ليس جديدا القول إنّ تونس قد اندمجت في الاقتصاد العالمي برعاية المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي عبر آليات التكييف الهيكلي (1986) واتفاقية الشراكة (1995) والانخراط في المنظمة العالمية للتجارة وإمضاء العشرات من اتفاقيات حماية الاستثمار مع الدول الغنية خصوصا.
والملاحظ أنّ هذا الاندماج قد كان دون أدنى استشارة للمواطنين كما تميّز بالانضباط الكلي والطاعة التامة من طرف الحكومة لمهندسي هذه السياسات. ونتيجة لذلك كان الاقتصاد التونسي شديد التأثر بمختلف التقلّبات والأزمات الطارئة على المستوى العالمي.
إنّ ما يبدو غريبا (لم يعد غريبا في الحقيقة لكثرة تعودنا على ذلك!) أنّ الحكومة أنكرت تضرّر تونس من هذه الأزمة مدّعية أنّها محصّنة بفضل القيادة الرشيدة وحكمة الديكتاتور كما لم تتردّد في القول إنّ الاقتصاد التونسي قادر على كسب مواقع جديدة في السوق العالمية.
وفي مطلع سنة 2009 تغيّر خطاب الحكومة التونسية حيث بدا لافتا أنّ البلاد واقعة تحت الضربات الموجعة والمكلفة اقتصاديا واجتماعيا للأزمةوتحقّق ما كان يعتبرونه -على مستوى الخطاب طبعا- مستحيلا!
كافّة المؤشرات حمراء اللون
نذكر سريعا بعض المؤشرات الدالة على وطأة الأزمة على تونس :
  • تراجع واضح في صادرات مختلف قطاعات الإنتاج المحلّي حيث بلغت نسبته في الثلاثية الأولى (1) من سنة 2009 إلى 18,8 %. وقد وصلت نسبة تراجع صادرات المنتجات الفلاحية والصناعات الغذائية 25,5 %.
  • نعتبر أنّ ما زاد من تعميق الأزمة هو الارتباط العضوي بين الصادرات التونسية والاسواق الأوروبية التي تستوعب بمفردها 82,5 % من قيمتها الاجمالية، خصوصا فرنسا(1/3)وايطاليا (¼). ولا يخفى أنّ هذين البلدن كسائر البلدان الأوروبية الاخرى- يتعرّضان بدورهما بشدّة تحت تأثيرات الأزمة حيث افتقاد السيولة المالية الكافية للتوريد..
  • هاكم مؤشر آخر أحمر اللون .. يتمثل في تحكّم الرأسمال الأجنبي بصفة مباشرة في أكثر من نصف الصادرات المحليّة (54% سنة 2008). وهكذا يمكننا القول إنّ نصف الصادرات التونسية هي في الحقيقة صادرات أوروبية من تونس نحو أوروبا وغيرها!!. لنأخذْ مثالا واضحا يبرهن على صحة ما نقول قطاع النسيج والجلود حيث حقق هذا القطاع 31% من الصادرات في حين تمثّل حصّة الرأسمال الأجنبي في هذا القطاع 96,7 %. بعبارة أخرى فإنّ فوائد التصدير تذهب إلى جيوب المستثمرين إضافة إلى إعفائهم من الاداء على الأرباح طيلة العشرية الأولى من انتصابهم بتونس أضف إلى ذلك السماح لهم بإعادة توطين أرباحهم في بلدانهم....الخ
  • وهذا مؤشر آخر من المؤشرات الحمراء : تميّز نموّ الإنتاج الصناعي بالتباطؤ منذ شهر نوفمبر الماضي ونكتفي في الإطار بهذا المثال المعبّر
    مؤشر تطور الأنتاج الصناعي
    اكتوبر 2008
    129،7
    نوفمبر 2008
    125،8
    ديسمبر 2008
    123،4
    فيفيري 2009
    119،4
    المصدر : المعهد الوطني للإحصاء
  • هناك تغلغل واضح للرأس المال الأجنبي في الاقتصاد التونسي من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر وهو ما يعمق من التبعيّة حيث يتحكّم الرأسمال الاجنبي بصفة جزئية أو كليّة في 1180 شركة تشغّل 106 آلاف أجير.
لنتركْ جانبا الخطاب الرسمي المهيمن ونستقرأ بانفسنا ما ينجرّ عن مثل هذه المؤشرات. لا شكّ انّها مؤشرات تبرهن بوضوح على بلوغ موجات التسونامي بلادنا وأنّها ستتكلف غاليا بالنسبة إلى الشعب التونسي وخصوصا الاجراء منه حيث لا يخفى علينا إغلاق العديد من المؤسسات وطرد الآلاف من العمّال والتدهور الواضح في القدرة الشرائية أضف إلى كلّ ذلك ضرب العمل النقابي وركون قيادة الاتحاد إلى البيروقراطية ومواصلة حكومة ابن علي في انتهاج القمع سياسة وارهابها لكل نزوع نحو حرية التعبير والفكر الحر والعمل المستقلّ.. إنّا في الواقع لا نخضع إلى دكتاتورية رأس المال العالمي فقط بل نعتبر أنّ ديكتاتورية السلطة هي آلية من آليات تنفيذ هذه السياسات الاقتصادية فالاثنان متوطئان وما علينا إلاّ أن نتحلّى بالشجاعة الكافة تحليلا وعملا لنقول لهما : كفى...! أنتم تسبّبون الكوارث وتراكمون الأرباح ونحن ندفع الفاتورة ونعيش البؤس الاجتماعي تحت ضربات عصا ديكتاتورية فظّة.
ينضاف إلى جملة هذه المؤشرات الاقتصادية عبء الديون العمومية إذا شهدت شروط الدين العمومي الخارجي تدهورا واضحا سببه ارتفاع نسب الفائدة وليس عدم توجّه الحكومة التونسية في سنة 2008 إلى الأسواق المالية بالقدر المعتاد إجراء تقدميا بل يبدو أنّ هذه الحكومة اختارت التوجّه إلى السوق المحلّية إذ جاء في تصريح محافظ البنك المركزي لوكالة تونس إفريقيا للانباء ما يلي : « .. لهذه الأسباب (أي تدهور شروط الاقتراض) لم تتوجّه تونس إلى الأسواق المالية سنة 2008 ولقد اقترح البنك المركزي على الحكومة عدم التوجّه ثانية إلى هذه الاسواق خلال سنة 2009 والعمل على تعبئة الموارد المالية التي يتطلّبها ميزان الدولة كليّا من السوق المحلية"
بيت القصيد في هذا التصريح هو "السوق المحلية" وهو يعني الالتجاء إلى المستثمرين الماليين المحليين وارتفاع نسبة الدين الداخلي العمومي مقارنة بنسبة تطوّر الدين الخارجي العمومي. لكن وإن كنّا متأكدين من أنّهم لم يقرضوا الدولة تلك المبالغ الطائلة دون فوائد فإنّنا نتساءل عن نسبة الفائدة بالنسبة إلى السوق المحلية الخاصة مقارنة بالأسواق المالية الدولية؟ ثمّ ألا يعني تعبئة الموارد محليا المزيد من التقشّف في الاستثمارات العمومية وفي ميزانيات الخدمات الاجتماعية والأجور ورفع الضرائب أو إحداث الجديد منها؟ ألا يعني ذلك امتصاص ما بقي من قطرات الدم التي تبقينا على قيد الحياة؟!!
مقابل ذلك لا نجد اثرا لتصريح حكومي يعلن التفكير في فرض أداءات على الرأسمال المحليّ أو الأجنبي أو مراجعة الأطر القانونية المنظمة لشروط الاستثمار الأجنبي سواء تعلّق الأمر بالإعفاء الضريبي أو بمختلف الامتيازات الأخرى بل العكس هو الذي حصل فقد أعلنت هذه الحكومة في إطار ما تعتبره دعم فرص الاستثمار والحفاظ على مواطن الشغل عن تخصيص مبلغ طائل يقدّر بـ 100 مليون أورو للشركات الاجنبية المنتصبة في تونس.. إنّ ذلك كمن يعاقب الضحية ويجازي الجاني!!
وليس مستبعدا كذلك أن تتوجّه الإجراءات "الوقائية" إلى المزيد من الخوصصة والتعجيل بالتفويت في ما تبقى من مؤسسات وكذلك البحث عن لزمات جديدة على غرار ما حصل أخيرا فيما يخصّ مطار النفيضة. في كلمة هي سياسة منطقها الجوهري : خوصصة الأرباح وتأميم الخسائر!!
إنّ الإجراءات التي تقدّمها الحكومة لا تمثّل في نظرنا حلاّ للأزمة بل تصريفا لها يتنزّل في اطار سعي الرأسمال المحلي والعالمي إلى البحث عن حلول لا تمس جوهر النظام وتحافظ على استمراريته لذلك جاءت هذه الإجراءات مدمّرة للاجتماعي وتزيد من تدهور أوضاع الأجراء، إنّها حلول تحمي رأس المال على حساب العمل والمجتمع وهنا لنا نتساءل عن دور منظمة كبرى كالاتحاد العام التونسي للشغل والأجوبة التي سيقدمها ردا على تداعيات هذه الأزمة ولو أنّنا نعتبر أنّ هذه المنظمة لا يمكنها أن تكون طرفا فاعلا إن لم تخرج بدورها من أزمتها وتعدّل من توجهاتها...

مختار بن حفصة
أفريل 2009

lundi 21 mars 2011

من أجل منتدى اجتماعي تونسي


كتب هذا المقال ونشر بجريدة الموقف عدد 240 وأعيد نشره هنا لأنّ المنتدى الاجتماعي التونسي مازال لم يتقدّم بناؤه عمّا كان عليه في سنوات الجمر!!!

من أجل منتدى اجتماعي تونس
من أجل تونس الحقوق ... كل الحقوق لكل الناس
مختار بن حفصة 
بدأ الحديث في المدّة الأخيرة في أوساط بعض الجمعيات والمناضلين الحقوقيين والاجتماعيين عن ضرورة بعث منتدى اجتماعي تونسي. وكانت جمعيّة راد أتاك تونس قد أصدرت في ماي 2003 نداء يؤكد على أهميّة عقد مثل هذا المنتدى الاجتماعي كما اختتم المشاركون والمشاركات في ندوة "الكلفة الاجتماعية للعولمة " المنعقدة بالمنستير يوميْ 11 و12 أكتوبر بتنظيم من فروع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالساحل أشغالهم بالدعوة نفسها.

وتأتي هذه النداءات تعبيرا عن بروز بوادر حركة اجتماعية تونسية ما فتئت تتبلور في المدّة الأخيرة نظرا إلى ما آلت إليه الساسية الليبرالية المدمّرة المتّبعة منذ ما يزيد عن 15 سنة، إذ أخضعت بلادنا منذ 1986 إلى سياسة التكييف الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ولكن أيضا التي هرعت إليها الحكومة، وهي في أوج أزمتها، بعد فشل ذريع لسياسة امتدّت ما يقارب الخمسين سنة وزعمت أنّها تهدف إلى بناء تونس الحديثة وتحقيق التنمية. وتوسّعت سياسة التحطيم الليبرالي هذه أكثر منذ بدء تنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 والتي وسّعت تبعا لذلك من رقعة الحريق الليبرالي لكلّ ما هو اجتماعي : التقشّف في الميزانية، تفاقم فوائد الدين، إلغاء الدولة لالتزاماتها الاجتماعية ، الخوصصة وطرد آلاف العمال، تزايد نسب البطالة ولا سيّما لدى الشباب من أصحاب الشهادات الجامعية، قوارب الموت...إنّ حصيلة عشرية من التكييف الهيكلي وما يقارب العشرية من تطبيق اتفاقية الشراكة مدمّرة إذ أنّ فشل مشروع التنمية بعد 1956 لم يجعل البلاد بهيمنة المنطق الليبرالي الجديد تتجاوز التخلّف باعتبار أنّه منطق اختار الهروب إلى الأمام بضربه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

إنّ وضعا اجتماعيا كهذا يتفاقم فيه التفاوت الاجتماعي وتخضع فيه البلاد إلى ديكتاتورية السوق التي تسهر عليها مؤسسات مالية دولية متواطئة مع ديكتاتورية سياسية محلية، لم يعد مقبولا بالنسبة إلى عموم التونسيات والتونسيين الذين يكدّون دون أن ينالوا نصيبهم من ثروة أصبح الجزء الأعظم منها يحوّل إلى الرأسمال العالمي المهيمن عن طريق خوصصة زاحفة ولزمات طويلة المدى وتسديد ديون ما فتئت تتزايد...

وفي مقابل ذلك، وفي ظلّ دعاية يومية للحكومة حول قدرتها اجتناب بطش غول العولمة وإنقاذ" أبنائها" منه، نعتقد أنّه لا بدّ من إطفاء الحريق ولكن من الضروري كذلك وضع حد لتقرير "المهووسين بإشعال الحرائق" مصير المواطنات والمواطنين بدلا منهم. ولقد بدأت بعد الحركات الاجتماعية المقاومة في نحت تصورات لعولمة بديلة ولا سيّما في المنتدى الاجتماعي العالمي المنعقد ثلاث مرات متتالية ببورتو أليغري منذ 2001  ومختلف المنتديات الإقليمية والمحلية (المنتدى الاجتماعي الإفريقي، المنتدى الاجتماعي الأوروبي، المنتدى الاجتماعي المغربي...) وهو ما يمكّننا من الاستفادة من هذه المنتديات ومختلف التجارب المقاومة للعولمة الرأسمالية.

 
إنّ الخاصيّة الأساسية لمنتدى اجتماعي تونسي هي أن يكون فضاء مفتوحا للتلاقي والحوار وتبادل الخبرات والتجارب وأن يكون كذلك فرصة للتفكير الجماعي ومنطلقا لبناء التصورات وبعث المبادرات وسبل العمل الجماعي والمقاومة الاجتماعية. في كلمة إنّه منتدى يبرز أنّ الخروج من الليبرالية أمر ممكن بدءا من تجميع الطاقات والانتقال من حال العجز والتذمر إلى المقاومة والتفكير في البدائل.

صحيح أنّ الحركة الاجتماعية في بلادنا مازالت ضعيفة وأنّ أشكال المقاومة مازالت محتشمة ومشتتة (عمال يدافعون عن مصادر رزقهم، نقابيون يناضلون من أجل حقوق اقتصادية واجتماعية بات مهددة أكثر فأكثر، مناضلون من أجل الديموقراطية والحريات...). وهنا بالضبط تبدو راهنية بناء منتدى اجتماعي يعزّز نواة هذه الحركة ويفتح الآفاق أمامها. فليست المقاومة الاجتماعية غريبة عن تونس (26 جانفي 1978، انتفاضة الخبز في 1984، مختلف المحطات النضالية للاتحاد العام التونسي للشغل...) وليست هي بمفقودة تماما اليوم بل إنّ ما ينقصها هو تجميع طاقاتها وتشبيك مكوّناتها في حركة أفقية وديموقراطية واسعة (جمعيات المجتمع المدني، نقابات عمالية، مناضلون حقوقيون، حركات نسوية، أفراد ، مثقفون وصحافيون...)، حركة تجمع جهود مختلف الفاعلين الاجتماعيين ومناضلات ومناضلي المجتمع المدني. إنّها حركة تحترم الاختلاف في التصورات ومجالات التدخل واستقلالية كلّ هيئة أو فرد ولكن ذلك لا يمنعنا من تعزيز نضالاتنا المشتركة وترقية حركتنا من أجل تونس أخرى. تلك هي أخصّ خصائص المنتدى الاجتماعي، أن يكون مفتوحا ولا ينطلق من أطراف أو مرجعيات أو منهجية محددين سلفا. يتحقّقّ بناؤه وضبط أطره وأهدافه بفضل النقاش العميق والديموقراطي والاستفادة من خبرات وتجارب نضالية أصيلة خاضها التونسيون والتونسيات منذ الاستقلال في سبيل بناء تونس ديموقراطية تضمن فيها المساواة والعدل والحقوق. كما يمكننا الاستفادة من تجارب انسانية متنوعة أدركت اليوم انّه من الضروري أن تجتمع مختلف القوى الفاعلة والمناضلة من أجل عولمة بديلة في جميع أنحاء العالم.إنّه منتدى يقاوم محليا وينخرط في ديناميكية النضال العالمي من أجل عولمة بديلة، مكوّن من مكوّناتها يثريها ويستفيد منها وما هو إلاّ بداية في مسار طويل....من أجل مستقبل أفضل.

(المصدر  صحيفة الموقف العد 240)

رسالة إلى محافظ البنك المركزي

نظمت جمعية راد بالاشتراك مع اتحاد اصحاب الشهائد المعطلين عن العمل مسيرة تندرج في إطار الحملة التي نخوضها من أجل تعليق تسديد الديون الخارجية. وقد توقفت تلك المسيرة أمام مقرّ البنك المركزي التونسي وقرأت الرسالة التالية بالعربية والفرنسية من طرف فتاة وشاب تونسيين.

السيد مصطفى كمال النابلي
محافظ بنكنا المركزي التونسي
لقد أعلمتم يوم 21 جانفي 2011 أثناء الندوة الصحفيّة، التي عقدتموها بعيد قدومكم من واشنطن حيث كنتم تديرون قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن تونس ستسدّد ديونها الخارجيّة في الآجال والتي تبلغ 1120 مليون دينار، وأنّ هذا المبلغ الهامّ سيتمّ اقتطاعه من ميزانيّة الدّولة.
سيّدي،
نحن التونسيّات والتونسيّين المتجمعين خلال هذا اليوم المجيد أمام مقر البنك المركزي الذّي هو ملك لنا:
نعتبر أن تونس بحاجة عاجلة إلى تعبئة كل مواردها الماليّة لتكون قادرة على مواجهة كل الضروريّات التي تستوجبها الوضعيّة الحاليّة وخصوصا الفقر المدقع والتعويض للمعطلين عن العمل وتحسين الوضعيّة الماديّة للأجراء...إلخ.
واعتبارا للوضعيّة الاستثنائيّة التي تمرّ بها بلادنا وللضرورات الاجتماعيّة الضخمة.
استنادا إلى الحجّة القانونيّة المتمثلة في "حالة الضرورة" والتي تسمح للدول التي تجد نفسهاا في صعوبات مالية كبيرة بتعليق خلاص ديونها من طرف واحد (مع تجميد الفوائد) وذلك حتى تمنح الأولويّة لتلبية حاجيات المواطنين.
استنادا إلى مثال الأرجنتين التي اختارت تعليق خلاص ديونها العموميّة من طرف واحد فيما بين سنتي 2001 و 2005 وذلك حتى لا تتم التضحية بحاجيات مواطنيها. وقد تمكنت بفضل هذا الإمهال من أن تعقد الصّلة من جديد مع النموّ الاقتصادي.
اعتبارا إلى أنّ الدكتاتور السابق وحكومته وبرلمانه الذين اختاروا خلاص الدّين قد أطردتهم ثورة الشعب التونسي. وبناء على ذلك فإنّ كلّ قراراتهم هي في المستقبل قرارات لاغية وباطلة.
ونظرا إلى تصريحكم أثناء نفس تلك الندوة الصحفيّة أنّكم تمارسون وظيفتكم تحت إشراف رئيس الجمهوريّة وأنّكم مسؤولون أمامه وحده دون غيره.
ونظرا إلى أنّ رئاسة الرئيس الحالي لم تعد تستند إلى أساس قانوني منذ يوم 15 مارس 2011.
وبالتالي فإنّ قراركم تسديد 1120 مليون دينار المبرمجة في قانون الماليّة بتاريخ 17 ديسمبر 2010 ليس له أيّ أساس قانوني وهو ما يعرّض إلى تتبعات مدنيّة وعدليّة حيث يتعلق الأمر بإجراء معاد للشعب.
بدل تسديد ديون الدكتاتور من أموال الشعب نعلمكم أنّنا سوف نطلب من السلطة القضائيّة أن تسعى إلى إعادة الأموال، التي استولى عليها الدكتاتور والمقربين منه والمودعة لدى البنوك الأجنبية، إلى تونس.
واعتبارا لنداء البرلمانيين الأوروبيّين (الذي هو قيد الإمضاء) والمطالب بالتعليق الفوري لاستخلاص القروض الأوروبيّة المستحقة على الجانب التونسي والمطالبة أيضا بلجنة تحقيق حول هذه الديون بهدف تحديد قسطها الكريه، اي الجزء الذي لم يستفد منه الشعب التونسي والذي يتوجب إلغاؤه دون قيد أو شرط.
نطالبكم بإصدار أمر فوري حول تعليق من جانب واحد للدين العمومي لتونس طيلة مدّة التحقيق حول الدّيون. وبالفعل فإنّ جزءا هاما من هذه الديون هو موروث من ديكتاتوريّة ابن علي والتي ينطبق عليها التعريف القانوني لمبدأ 'الدّيون الكريهة'. وبمقتضى نظريّة الديون الكريهة المعترف بها في القانون الدولي: "إذا ما أبرم نظام استبدادي دينا من أجل تدعيم نظامه الاستبدادي ومن أجل قمع السكان الذين يقاومونه بدل من خدمة احتياجات البلد ومصالحه، فإنّ هذا الدّين هو دين كريه بالنسبة لسكان البلد قاطبة (...). وبمقتضى ذلك فإنّ هذا الدّين ليس دينا موجبا بالنسبة للشعب، بل هو دين نظام، دين خاص للنظام الذي عقده، وبالتالي فإنه يسقط بسقوط النظام".
وحيث أنّ الدائنين بإسنادهم قروضا لديكتاتوريّة ابن علي قد اقترفوا عملا معاديا لحق الشعب التونسي، وبالتالي فإنّه من حق الشعب التونسي الذي تحرر من نير حكم مستبدّ أن يرفض مسؤوليّة هذه الدّيون الكريهة والتي هي ديون النظام السّابق، حسب ما تقرّ به هذه النظريّة. إنّ لجنة التحقيق التي يجب أن تشمل إجمالي الدّيون العموميّة لتونس والتي يجب أن تشمل ممثّلين عن المجتمع المدني التونسي والدّولي، كما فعلت ذلك حكومة الإكوادور ما بين 2007 و 2008، سوف تسمح بإلقاء الضوء على وجهة الأموال المقترضة، وحول الظروف التي حفّت بإبرام هذه العقود، ومقابل هذه الديون، أي شروطها، كما أيضا انعكاساتها البيئية والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
حيث سوف تمكن لجنة التحقيق من التعرف على الجزء غير الشرعي للدين التونسي، والذي يجب بناء على ذلك رفضه، ولكن أيضا ستمكّن من انطلاق جولة تداين لا شرعيّة جديدة وغير مستدامة، وذلك من خلال حمل الدّائنين على تحمل مسؤوليّاتهم وأيضا الحكومة التونسيّة الجديدة.
إنّ هذه الثروة التي هي ملك الشعب التونسي يجب أن تعاد إليه. فوحده الشعب التونسي له الحقّ في تحديد مجالات توظيف هذه الأموال والتي من شأنه أن يضعها في خدمة الطموحات المشروعة التّي حملتها الثورة.
تقبلوا سيدي، محافظ البنك تحيّاتنا المواطنيّة.

jeudi 17 mars 2011

حتّى لا يعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة!


حتّى لا يعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة!
كان نظام الباي قد أجهض ثورة عليّ بن غذاهم التي انتشرت بسرعة في مختلف المناطق في ربيع 1864.وكانت دوافع تلك الثورة اقتصادية واجتماعية بالأساس حيث أعلن السكان عن رفضهم للجباية التي أثقلت كاهلهم. وقد قاد خزندار والجنرال زروق عسكر زواوة وسحقوا ربيع تونس في تلك السنة. لقد وجدت البلاد التونسية نفسها بعد سحق هذه الثورة في أزمة ماليّة خانقة سنة 1869 عجزت فيها سلطة الباي عن تسديد الديون الخارجية للملكة فلم تتردّد الدول الاستعمارية الغنيّة (فرنسا، بريطانيا وإيطاليا) في التدخّل خوفا على أموالها ومن اشتعال ثورة جديدة قد تعصف بكلّ استراتيجيتها الاستعمارية .وتمثّل ذلك التدخّل في تشكيل الكومسيون المالي الذي تشكّل من الدائنين الأغنياء الثلاثة وممّثّل عن الإيالة التونسية (خير الدين باشا ثمّ مصطفى بن اسماعيل) ومثّل الكومسيون تدخّلا أجنبيا مباشرا تولّى تصريف الشؤون المالية للبلاد فاستخلص الديون وجرّد الباي من كلّ سلطة فعلية على اقتصاد البلاد ونظامها المالي.
بعد ذلك بسنوات قليلة أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية والاستعمار مباشر...
وبعد سنة 1956 بـأكثر من نصف قرن نجحت ثورة جانفي 2011 في التخلّص من حكم ديكتاتوري جعل اقتصاد البلاد خاضعا لتوصيات الدول الغنيّة والمؤسسات المالية عبر تبنّي برنامج التكييف الهيكلي (1986) واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي (1995) وعقد عشرات الاتفاقيات لحماية الاستثمار..الخ
إنّ تلك السياسات جعلت طاقة الاقتصاد التونسي موظّفة للتصدير للحصول على العملة الصعبة الضامنة لتسديد الديون وذلك عملا بتوصيات المؤسسات المالية الدولية وبرامجها. إنّ الأمر لا يختلف كثيرا عمّا كانت عليه البلاد قبيل الحماية لذلك ليس من المغالاة في شيء أن نصف السياسة الاقتصادية التي اتبعها نظام الديكتاتور بأنّها خضوع تامّ للإملاءات الأجنبية حتى أنّ الدائنين لم يبخلوا عليه بشهادات الاستحسان ولقب التلميذ النجيب (راجع تصريحات شيراك وساركوزي وبرلسكوني ودومنيك شتروس كان.رئيس صندوق النقد الدولي..).
إنّنا نعتقد أن الكلفة الاجتماعية الباهظة لتلك السياسة هي التي جعلت من الشعب التونسي يعلن ثورته على ابن علي بعد ان اكتوى بها لأكثر من عقديْن. فالثورة التونسية في منطلقها كانت اجتماعية بالأساس ثمّ ارتبط فيها الشعار الاجتماعي بالمطلب الديمقراطي. غير انّ النخبة السياسية بعد الثورة نادرا ما وضعت النظام الاقتصادي السائد موضع تساؤل في حين انصرف الجميع إلى الاهتمام بالمطالب الديمقراطية والحرية السياسية. كما تميّز المشهد العام السائد بعد هذه الثورة بأحداث مشابهة لما شهدته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تواترت على البلاد وفود عديدة ممثّلة لحكومات الدائنين ومؤسساتهم. وإذا ما عدنا إلى تصريحاتهم الصحفية ومشاعرهم المعلنة نجدهم يردّدون مساندتهم للثورة وفرحهم بانتصار إرادة الشعب على الديكتاتور ولكن لا أحد منهم اعتذر للشعب التونسي عن مساندة ذلك الديكتاتور الذي لم يبخلوا عليه بديون ثقيلة سدّد فاتورتها الشعب التونسي. واللافت أيضا في تصريحاتهم، بعد ديباجة الإعجاب والمساندة، أنّهم عبّروا عن قدومهم لمساعدة تونس ماليا في هذا الظرف الاستثنائي. والمساعدة المالية في هذا السياق تعني تقديم قروض جديدة. وقد عبّر عن ذلك نائب رئيس البنك الأوروبي للاستثمار وايطاليا وفرنسا والمفوضية الأوروبية..
إنّ هؤلاء" الضيوف" المُريبين لا يختلفون كثيرا عن أعضاء الكومسيون المالي فقد جاؤوا لضمان خلاص ديونهم ولإغراق البلاد في ديون جديدة وضمان عدم قطع الثورة التونسية مع النظام الاقتصادي السائد الذي يضمن لهم ترحيل ثروات الشعب التونسي ومراكمة الأرباح (حصيلة التحويل الصافي بالنسبة إلى الديون التونسية بلغت 6580 ـــ مليون دينار طيلة حكم ابن علي). وقد استجابت السلطات التونسية الوقتيّة لتلك الغاية دون ادنى معارضة فمحافظ البنك المركزي أعلن عن ذلك صراحة باكرا إذ صرّح يوم 21 جانفي 2011 ان تونس ستسدّد 1120 مليون دينار على قسطين (800 م.د في شهر أفريل والباقي في سبتمبر) أمّا خطاب الحكومة فكثيرا ما يركّز على إعادة الثقة إلى المستثمرين الأجانب والدائنين رغم أنّ وكالات التصنيف الخاصة بالديون خفّضت من العدد الممنوح لتونس بعد الثورة..
إنّ إفراط نظام المخلوع في قمع الشعب التونسي عائد في نظرنا إلى ضمان استمرار هذه السياسة الاقتصادية القائمة على التبعية والخضوع وضرب السيادة الشعبية واستقلال القرار.ومادام الشعب التونسي قد نجح في طرد مَن صادر سيادته فإنّ نجاح ثورته يستوجب صدّ اللصوص المحليين ومحاسبتهم وإعادة النظر في العلاقة مع الدائنين من الدول الغنية ومختلف المؤسسات المالية بدءا بتعليق تسديد الديون الخارجية حتّى يتمّ توظيف مبالغها الطائلة في تحقيق بعض ما اندلعت من أجله الثورة وفرز الديون المريبة عبر تشكيل لجنة تحقيق مواطنية واستعادة السيادة الوطنية والشعبية فيما يخص التداين والسياسة المالية والاقتصادية. ألم يقل الدائنون إنّهم يساندون الثورة التونسية؟ أليس إلغاء الديون مظهرا من مظاهر تلك المساعدة خصوصا وأنّه لن يضرّهم بالقدر الذي سيتضرّر منه الشعب التونسي في صورة مواصلة التسديد؟
وحتّى لا يكون مآل الثورة التونسية نفس المآل الذي آلت إليه البلاد بعد ثورة 1864 يجب ان يكون النظام المالي والاقتصادي في صدارة جدول أعمال كلّ مَن يريد لهذه الثورة أن تحقّق أهدافها : التشغيل والعدل الاجتماعي والكرامة والسيادة الشعبية.
إنّهم يريدون إعادة التاريخ في شكل مهزلة
لكنّنا نريد الاستفادة من درس التاريخ
مختار بن حفصة
17 مارس 2011