mardi 13 mars 2012

ليس التعليم سلعة.... ليست المدرسة للبيع


تسيطر على مجتمعاتنا قوانين السوق ومنطق التسليع بسبب انتصار الليبرالية الجديدة والانخراط في مسار العولمة الرأسمالية. وكانت النتائج الاجتماعية الناجمة عن هذا المسار كارثية. فسياسات التعديل الهيكلي (1986) واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانخراط في المنظمة العالمية للتجارة (1995) أدّت إلى تحوّلات عميقة وسريعة لم تقتصر في الواقع على المجال الاقتصادي فحسب، بل طالت كلّ أوجه الحياة في مسعى محموم إلى تحويل كلّ شيء إلى سلعة، بما في ذلك الخدمات الاجتماعية ومن ضمنها التعليم الذي ما فتئ يعرف منذ ذلك التاريخ مراجعات مختلفة مثلما وقع في بلادنا (قانون عدد 65 المؤرخ في 29\07\1991 ثمّ مشروع مدرسة الغد سنة 2000 والقانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي الصادر في جويلية 2002.


لنــــفهم 
لا شكّ أنّ مفاتيح عالم التربية والتعليم لم تعد اليوم بيد الدولة وحدها، بل أصبح الأمر يتعلّق بــ "شركاء" عالميين. ونجد إقرارا بذلك في مختلف الوثائق الصادرة عن الوزارة المكلّفة بالتعليم (الوثيقة المرجعية لمدرسة الغد، مدرسة للجميع فيها حظ والصادرة في أكتوبر 2000 والقانون التوجيهي للتربية والتعليم الصادر في جويلية 2002). ويسعى هؤلاء "الشركاء" باستمرار إلى جعل النظام التعليمي مستوحى من المنطق الاقتصادي الليبرالي الساعي إلى بناء نظام تعليمي عالمي خاضع لقواعد التجارة الحرة وإستراتجية الشركات المتعدّدة الجنسيات. إنّ هذه الإستراتجية الجديدة جاءت نتيجة ضغوط لوبيات رأس المال والمؤسسات المالية والتجارية العالمية على الدول وذلك لسببين على الأقلّ :
1 – أهميّة سوق التعليم بالنسبة إلى رأس المال،(يمثل سوق التعليم في العالم اليوم ضعف سوق السيارات) ولطالما كان المستثمرون "محرومين" من هذه السوق التي تضمن أرباحا طائلة باعتبار أنّ قطاع التعليم تحتكره الدولة إلى حدّ كبير. وهي سوق هامّة ماليّا من جوانب عديدة فالربح فيها لا يتأتّى من سعر الخدمة فقط بل تضمنه كذلك جوانب أخرى كالإشهار والسكن والأكل وبيع التجهيزات والبرمجيات والدراسة عن بُعد...الخ. ثمّ إنّ الربح في هذه السوق  طائل وغير محدّد زمانيا ومكانيا باعتبار أنّ التعليم، كغيره من القطاعات، أصبح سوقا مفتوحة وأنّه مغر استثماريا إذ أنّ "المواد الأولية" لا تنضب فيه ولا يحتاج إلى كُلفة عالية كسائر القطاعات والبضائع الأخرى ( اليد العاملة، الصيانة، النقل...)
2- أمّا السبب الثاني فهو أنّ إعادة الهيكلة الليبرالية للتعليم تمثّل مراجعة جذريّة لقطاع حيويّ ويمكن اختزالها في تحوّل المدرسة من التعليم إلى تعليم التعلّم. وهو ما يمكّن الشركات الخاصة من يد عاملة ماهرة ومؤهلة لشروط العمل في عصر العولمة الرأسمالية ويعفيها من تكاليف الرسكلة. هذا فضلا عن تجريد برامج التعليم من ما من شأنه أن ينتج ذواتا متحرّرة من الاستلاب وواعية بظروف عملها وقادرة على النضال الاجتماعي دفاعا عن حقوقها ومفهومها الاجتماعي والمواطني للمدرسة.
هناك ثلاث مؤسسات دولية أساسية - منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية والبنك العالمي- تسهر اليوم على فرض هذه الاستراتيجية الجديدة للتعليم في تواطئ مع جماعات الضغط من المنظّرين الليبراليين محليا واقليميا ودوليا إلى جانب إخضاع الحكومات إلى تبنّي هذه الاستراتجية الجديدة. وقد شكّلت هذه المؤسسات الثلاث لجانا خاصة بالتعليم وأصدرت التقارير وعقدت الندوات والمفاوضات من أجل فرض الأمر الواقع على الحكومات مستخدمة مختلف الضغوط لتنفيذها.
منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE
وهي المنظمة التي تجمع شمل البلدان الغنية في العالم والتي رضخت – فيما يخصّ التعليم- إلى ضغوط المائدة المستديرة للصناعيين الأوروبيين التي أصدرت تقريرها الأوّل حول التعليم سنة 1995 وأعلنت في هذا التقرير أنّها : " تعتبر التربية والتكوين استثمارات استراتيجية حيويّة للنجــــــاح المستقبلي للمؤسســة" ( التسطير هنا وفيما سيأتي من شواهد هو من وضعنا)
وبما أنّ النشاط الاقتصادي في العولمة الرأسمالية يتميّز بالتغيّر المستمرّ للإنتاج والتطوّر التكنولوجي السريع وبما أنّ العمل يتطلّب إعادة هيكلة وتنظيم مستمرّين فقد استوجب كل ذلك في العقيدة الليبرالية الجديدة التركيز على مرونة التشغيل وقد تمّ تكليف التعليم بهذه المهمّة وأكّدت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على مبدإ التعليم مدى الحياة وهو مبدأ أبعد ما يكون عن ذلك الهدف الإنساني النبيل بقدر ما يعني أنّ الوظيفة الأساسية للمدرسة أصبحت "تعليم التعلّم" وإعفاء رأس المال من الوقت المهدور والكلفة الباهظة للرسكلة والتكوين، وتنفيذا لذلك أكّد تقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عنوانه "سياسات سوق الشغل : التعلّم مدى الحياة" (3) على أنّ الإعداد للحياة النشيطة لم يعد هو الهدف النهائي بل إنّه على العمال أن يتابعوا تكوينا مستمرّا طيلة حياتهم المهنية قصد تحقيق الإنتاجية وقابلية التشغيل . ولئن كانت الأهداف الخاصة بالتعليم التي تصبو إليها هذه المنظمة قد تمّ تحديدها بوضوح في تناغم تام مع ضبطته المائدة المستديرة للصناعيين الأوروبيين، فإنّ المسألة الجوهرية بالنسبة إليها هي ألاّ يكون تأهيل العمال ورسكلتهم، لتحقيق الإنتاجية وقابلية التشغيل المعلنيْن في التقرير المذكور أعلاه، من مشمولات المشغّل بل إنّ المطلوب لديهم تحديدا هو سبل تنظيم التعليم نفسه في مختلف أرجاء الأرض على نحو يحقّق هذه الأهداف المرسومة.
إنّ المتابع لمختلف التقارير الخاصة بالتعليم الصادرة عن هذه المنظمة يلفت انتباهه تركيز كبير على مفهوم جوهري وهو "المرونة" : مرونة تشغيل الخرجين من المدرسة نحو سوق الشغل ومرونة النظام التعليمي الذي تشتغل به المدرسة. وعندما نفكّك هذه الكلمة السحرية العزيزة على قلوب الرأسماليين نجدها مفهوما مركبا من "الإنتاجية"، أي تحقيق الربح الأقصى في ظروف عمل لا تختلف كثيرا عن العهود العبودية. وتعني "الإنتاجية" كذلك قابلية التشغيل والملائمة أي مرونة التشغيل وتلاؤم قوانين العمل مع هذه الرؤية الجديدة.
الاتفاق العام حول تجارة الخدمات AGCS
إنّ ما يلفت نظر الدارس هو التزامن بين مراجعة النظام التعليمي في بلادنا مع إطلاق المفاوضات حول تحرير التجارة في إطار الاتفاق العام حول تجارة الخدمات التابع للمنظمة العالمية للتجارة (1995 هو تاريخ الإعلان عن مشروع مدرسة الغد ودخول الاتفاق حول المنظمة العالمية للتجارة حيز التنفيذ وبداية التفاوض.
يهمّنا في هذا الإطار بيان أوجه التماثل بين القانون التوجيهي الجديد للتربية والتعليم (جويلية 2001) وبنود الاتفاق العام حول تجارة الخدمات.
تبدو العلاقة جليّة بين تاريخ ظهور هذا المشروع الجديد للمدرسة التونسية المسمّى بـ"مدرسة الغد" وتاريخ إنشاء منظمة التجارة العالمية والإمضاء على الاتفاق العام لتجارة الخدمات. إنّ تاريخيْ 1995 - 2000 يشيران إلى ضرورة التزام الحكومات بما يتمخض عن مسار المفاوضات المتعلقة بتحرير تجارة الخدمات وإلى تحوّل "مدرسة الغد" من مشروع إلى إنجاز وإجراء إذ فليس إصدار أوّل وثيقة عنه سنة 2000 محض صدفة أو صادرة عن استشارة وطنية  حقا. وهناك معطى آخر يمكننا أن نفسّر به ظهور هذه السياسة التعليمية الجديدة في ذلك التاريخ تحديدا (1995-2000 إعدادا وبعد ذلك تطبيقا) وهو أنّه تاريخ يتوافق مع توقيع تونس على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي يمثّل التبادل الحر جوهرها وبذلك تصبح الإيديولوجيا الليبرالية مهيمنة محليا وإقليميا وعالميا لتعكس بذلك اكتساح السوق كافّة أرجاء المعمورة وجميع مجالات الحياة. هكذا نفهم العلاقة بين بروز منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التبادل الحر في مختلف أنحاء العالم.
إنّ قارئ هذا القانون يقف على المرونة الكبيرة التي وردت عليها مختلف فصوله، فكثيرا ما نجد الفصل القانوني لا يبتّ في موضوع اهتمامه بتّا تامّا أو يضبطه ضبطا نهائيا. وتكثر في هذه الفصول الصيغ اللّغوية الدّالة على الإمكان والتغير من قبيل " التكيف مع المتغيرات "2 و" يمكن للأشخاص الطبيعيين والمعنويين إحداث مؤسسات تربوية خاصّة.."3 و" يمكن إعداد مؤسسات تعليمية خاصة تعتمد برامج وتنظيمات خصوصية..."4
إنّ هذه المرونة التي بني عليها النصّ القانوني في فصوله السبعين تهدف في الحقيقة إلى جعل المنظومة التربوية ملاءمة لمرونة الاتفاق العام حول تجارة الخدمات باعتباره مسارا مفتوحا للتفاوض وتجديدا مستمرّا للصيغ القانونية المتعلقة بمختلف الخدمات بما فيها التعليم. فهذا الاتفاق ليس ناجزا ونهائيا كما ينص على ذلك فصله التاسع عشر الذي يلائمه تماما ما ورد في خاتمة مقدمة
إنّ ما تهدف إليه المنظمة العالمية للتجارة هو خوصصة التعليم وهو نفس الهدف الذي أعلن عنه القانون التوجيهي للتربية والتعليم إذ أفرد للقطاع الخاص عنوان خاص به يتكوّن من سبعة فصول، إضافة إلى بعض الإشارات في الفصول والأبواب الأخرى من القانون كالفصل التاسع والعشرين الذي أورد: " ...إذ تجري الدراسة في المؤسسات العمومية والخاصّة.." أو في الفصل الثامن والثلاثين : " ويمكن للأشخاص الطبيعيين والمعنويين إحداث مؤسسات تربوية خاصة." فهي إشارات وفصول تنصّ كلّها على ضرورة فتح مجال التعليم أمام الخواص سواء أكان رأس مال محليّ أو أجنبي والتشريع لحقوقه قانونيا.
أمّا الفصل التاسع والثلاثين فينصّ على أنّه " على المؤسسات التربوية الخاصة أن تنتدب جزءا من المدرّسين للعمل بها كامل الوقت..." وهو ما يتلاءم مع حجة كهنة منظمة التجارة العالمية القائلة إنّ توفير مواطن الشغل منفعة من منافع تحرير تجارة الخدمات العمومية. ويكفينا في هذا السياق أن نشير إلى الارتفاع المهول لعدد المعطلين من خريجي الجامعة وخصوصا منذ بداية اتّباع هذه الساسية التعليمية التي تطوّع التعليم والتشغيل لمصالح الرأسمال العالمي ملغية كلّ اهتمام بهما باعتبارهما من الأوليات الاجتماعية ومن الركائز الأساسية لتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.
ويتأكّد هذا التلاؤم ما ورد في السادس (الفقرة الرابعة) من الاتفاق العام حول تجارة الخدمات، إذ ينصّ هذا الفصل على أنّ " التشريعات والإجراءات القانونية والإدارية للسلطات المركزية والجهوية والمحلية للدول لا يمكنها أن تكون متشدّدة أكثر من اللازم حتّى لا تكون عقبات غير ضرورية أمام تجارة الخدمات". ثمّ إنّ اتفاق منظمة التجارة العالمية هذا يؤكّد بوضوح على إلزامية مبدأ " المعاملة بالمثل" ما أن يقع الاتفاق على تحرير تجارة خدمة من الخدمات. ولا يؤكد هذا المبدأ على المعاملة بالمثل بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال المحلي فقط، وإنّما بينه وبين الدولة أيضا ما دامت هي أيضا توفر هذه الخدمة.
إنّ الأمر يتعلق بتسليع التعليم أيْ أنّه بسبب هذا القانون، سيصبح سلعة مثل سائر السلع ولكنّه لم يعد "مجانيا" تماما كما أشار إلى ذلك الفصل الرابع المذكور أعلاه. لقد وقعنا بين نابي أسد فالدولة العضو في منظمة التجارة العالمية لم يعد بمقدورها، بعد المفاوضات أن ترصد مبالغ مالية هامة لفائدة التعليم العمومي وذلك لسببين أثنين : إجراءات التكييف الهيكلي تملي عليها التقشّف في المصاريف العمومية وقوانين منظمة التجارة العالمية تفرض عليها مبدأ "المعاملة بالمثل".
البنك العالمي BM
للبنك العالمي بدوره مساهمة هامة في الضغط على دول العالم الثالث كي تراجع نظمها التعليمية وإعادة هيكلتها على أسس ليبرالية. ويرد ذلك في إطار برامج التكييف التي رسمها البنك العالمي لإعادة هيكلة اقتصاديات بلدان العالم الثالث والمؤكّدة على ضرورة تقشّف الدولة أو انسحابها أو تخفيض تمويل التعليم وغيره من الخدمات الاجتماعية والدعوة إلى فتح هذه الخدمة أمام القطاع الخاص. ويختزل البنك العالمي رؤيته للتعليم في مسألتيْن : ضمان التعليم الأساسي وإعادة مراجعة النظم التعليمية على نحو يتوافق مع الايدولوجيا الليبرالية الجديدة المهيمنة وقد ورد في موقعه على الأنترنت : "يركّز البنك في جهوده المبذولة لدعم التعليم على نقطتين رئيسيتين : الأولى هي مساعدة البلدان على الحصول على تعليم أساسي، والثانية هي مساعدة البلدان بنفس القدر على بناء المهارات المرنة عالية المستوى اللازمة للتنافس في الأسواق العالمية التي تحرّكها المعرفة اليوم. كما يساند البنك مستوى منبثق من التعليم يطلق عليه "التعلّم مدى الحياة" والذي يكفل تدريب القوّة العاملة بالبلد على المعارف الجديدة عالية التقنية باستمرار.
إنّ السياسة التي يحددها البنك العالمي للتعليم لا تختلف في جوهرها عن تلك التي تضمنتها تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، لكن ما يميّز البنك هو تكفّله ببلدان العالم الثالث باعتباره دائنا لها فيما يخصّ تمويل المشاريع التعليمية كما أنّ دوره لا يقتصر على تقديم الأموال فحسب بل يرسم السياسات ويحاسب البلدان على مدى نجاعة تطبيقها. كما يوجّه إليها "المساعدة الفنيّة" التي قد تصل تكاليفها أحيانا المبلغ الذي تستطيع به بعض الحكومات مجابهة عدد من الصعوبات المالية الخاصة بالتعليم. إنّها نفس السياسة التي يتوخاها البنك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى.
وقد ذهب البنك شوطا كبيرا في تحقيق هذه الأهداف ، فلم تعد المسالة الأساسية عنده خوصصة التعليم لأنّ ذلك أصبح في حكم الأمر الواقع بل كيف يتمّ فرض هذه الأهداف. وقد ورد في تقرير له صادر في جويلية 1999 تحت عنوان التربية قطاع استراتيجي أنّ : "المسألة الجوهرية الآن ليست في معرفة هل إنّه على الفاعلين غير الحكوميين أن يلعبوا دورا متزايدا في التربية، فهذا أمر مؤكّد، بل إنّ جوهر المسألة هو كيف يمكن إدراج هذه التطوّرات في الاستراتيجيات الكليّة للأمم". ثمّ إنّ البنك العالمي قد تجاوز مرحلة طرح الأسئلة والبحث في المسائل الجوهرية إلى مستوى التنفيذ فقد عقد سنة 1999 بواشنطن ندوة عنوانها فرص الاستثمار في التعليم الخاص في البلدان النامية توّجت بتأسيس نادي الاستثمار في التعليم ( Edinvest) وهو ناد يجمع "الأشخاص والشركات والمؤسسات المهتمة بالتعليم في البلدان النامية". ويتمثّل دوره بالأساس في "توفير المعطيات لجعل الاستثمارات الخاصة في التعليم أمرا ممكنا على نطاق واسع". كما كانت مشاركة البنك فعّالة في الدورة الأولى للسوق العالمي للتعليم المنعقد بمدينة فانكوفر سنة 2000.
هكذا إذن، أصبح البنك العالمي في ظرف خمس سنوات تقريبا فاعلا أساسيا في تحرير التعليم وخوصصته وضرب السيادة الوطنية للدول فيما يخص التعليم. وقد تمكّن البنك منذ جوان 2004 من "استدراج" 89 بلدا من بلدان العالم الثالث لتطبيق حوالي 124 مشروعا في هذه البلدان كما بلغ حجم القروض الخاصة بالتعليم في سنة 2004 ما قيمته 1.7 مليار دولار". ولا يفوتنا طبعا أن نتساءل هنا هل إنّ أوضاع التعليم في هذه البلدان هي أفضل حالا على ما كانت عليه قبل تبنّي سياسات البنك الدولي؟ وماذا لو البنك الديون العمومية الخارجية لهذه البلدان وأتاح لها فرصة تحسين التعليم وسائر الخدمات الاجتماعية الأخرى؟ أليست الأموال المحرّرة كفيلة ببناء نظام تعليمي عمومي وذي جودة يكفل هذا الحق للجميع وبشكل متساو؟ وهل إنّ السياسة التعليمية الجديدة التي يسهر عليها البنك العالمي هي الأفضل حقّا في تحسين أوضاع التعليم والمعلمين والمتعلمين في هذه البلدان؟
أطلق البنك سنة 2002 مبادرة تعمل على تحقيق هذه الأهداف في أسرع وقت سمّاها " مبادرة المسار السريع" وخصّص لها صندوقا ماليا بقيمة 235 مليون دولار لإقراضها لبلدان الجنوب التي وجدت صعوبة في تمويل التعليم بعد التزامها بهذه السياسة الجديدة. و"تجد صعوبة في جذب المانحين إليها".
وميزة "مبادرة المسار السريع" هذه هي كونها مبادرة لا تقتصر على معالجة مشاكل التمويل المنجرّة عن إعادة هيكلة التعليم أو الصعوبة في جذب استثمارات الخواص إلى قطاع التعليم، بل إنّها كذلك تؤكّد على عادة من عادات البنك العالمي الثابتة! وهي " تكفّل المانحين بتوفير سياسات إضافية وبيانات وبناء القدرات والدعم المالي للبلدان التي تعهّدت بتطبيق سياسات سليمة (يا لها من دوغمائية!) ومستعدّة لمساءلتها عن النتائج". أيْ إنّ الدول المعنيّة لا شأن لها بالسياسة التعليمية ومجرّدة من سيادتها فهو تدعى إلى تبنّي السياسات وتنفّذها ثم تتمّ مساءلتها عن نجاعة هذا التطبيق. ويبدو البنك أيضا في غاية السعادة لانصياع أغلب بلدان العالم الثالث لهذا المسار الثلاثي في سنة 2003 وذلك بعد أن كانت المبادرة في بدايتها مقتصرة على 18 بلدا : " امتدّت مبادرة المسار السريع لتشمل كافة البلدان منخفضة الدخل التي تستحقّ ذلك".
لا يغفل البنك، وهو يقدّم كلّ ذلك، عن إرفاقه بخطاب ايديولوجي إنسانوي من قبيل تعصير المجتمعات الفقيرة وتنميتها أو المساهمة في سدّ الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب.. غير انّ ما يبطنه الخطاب هو انّ التركيز على التكنولوجيا الجديدة  من شأنه أن يفتح سوقا جديدة تضمن ارباحا مغرية ويحقّق إعادة الهيكلة ليبرالية للعمل التي بيّناها في سياسة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ( الإنتاجية والمرونة والإعفاء من تكاليف الرسكلة والتكوين..).
إنّ هذه السياسة التعليمية الجديدة لم تكن نتيجة مراجعات بيداغوجية مستقلّة أو قرارات سيادية من الدول بل كانت مفروضة من المؤسسات المالية الدولية والشركات المتعددة الجنسيات وجماعات الضغط العاملة لحسابها والمتناغمة معها ايديولوجيا كما بيّنا ذلك فيما يخصّ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة. إنّ هذه المنظمات والمؤسسات تعمل عن طريق تقاريرها وندواتها ومنتدياتها على ملائمة التعليم مع المستجدات الاقتصادية في الوقت الذي تهيمن فيه النيوليبرالية على العالم هادفة إلى تحويل التعليم من مسألة وطنية وخدمة اجتماعية تؤمّنها الدولة إلى عامل محدّد في سيرورة الإنتاج وظروفه وسلعة في سوق معولم.
 لنتحرّك .... لنقاوم !
إنّ مقاومة السياسة التعليمية الجديدة  يمكن اختزالها في شعار "ليس التعليم سلعة .. وليست المدرسة للبيع"! ذلك لأنّها سياسة هادفة إلى ملائمة المدرسة مع انتظارات السوق ومصالح المستثمرين الخواص وذلك بالسعي إلى تحقيق مرونة النظام التعليمي ولكن أيضا مرونة اليد العاملة التي يخرّجها هذا النظام. ويعني التسليع كذلك اقتصار وظيفة التعليم على الانفتاح على السوق وإنعاشها وخلق أسواق جديدة لترويج التكنولوجيا وتقنيات الاتصال وبالتالي يتمّ تحويل المدرسة والمعارف إلى سلع جديدة وقطاعات اقتصادية ذات مردودية جيّدة وأرباح وفيرة بالنسبة إلى المستثمرين الخواص. ثمّ إنّ بناء النظام التعليمي على منطق التسليع هدف لا يتحقّق إلاّ بالتضحية بالمكاسب الاجتماعية للمدرسين وسائر المجتمع والتي كابدوا فيما مضى للحصول عليها. ولا يتحقّق التسليع كذلك إلاّ بسدّ الطريق أمام الدفاع عن المدرسة العمومية ومكاسبها ودعمها وتنميتها.
ويمككنا اختزال نتائج تسليع التعليم وخوصصته والتي يجب النضال ضدها في النقاط التالية التي تمثّل حججا مضادّة لما ورد في أدبيّات المؤسسات المالية الدولية والسلطات السياسية المتحالفة معها :
-        تدهور جودة التعليم الذي تقدّمه المدرسة العمومية وذلك بالتركيز على بعض الكفايات المتعلّقة باللغات والحساب والكتابة واستخدام التكنولوجيا الحديثة (ما يعبّر عنه المدرسون اليوم بــ "رفع الأميّة) وإفراغ البرامج من المعارف المتنوّعة وخصوصا ذات النزعة الإنسانية منها وتنمية الفردانية والاغتراب وضرب مبدإ التكافل والتضامن والمواطنة
-        التفاوت الاجتماعي بين "حرفاء" المدرسة وبالتالي تفاقمه في المجتمع، وهو تفاوت بين "الحرفاء" الأغنياء مريدي المدرسة الجديدة الخاصة و"الحرفاء" الفقراء مريدي المدرسة العمومية المنهكة والعاجزة عن منافسة القطاع الخاص.
إنّ مقاومة التسليع تستوجب، في رأيينا، أن يتمّ استهداف قيم السوق سواء في محتوى البرامج التعليمية أو هيكلة التعليم وطرق تسييره لأنّ تسليع التعليم لا يعني تحويله إلى سوق فقط بل يعني كذلك إخضاعه لمتطلّبات السوق واقوانينه وانتظاراته.
تلكم هي أبرز المخاطر المنجرّة عن المقاربة الليبرالية للمدرسة وهي نتائج تحتاج إلى مقاومة اجتماعية ذات فعاليّة مسلحة بالمعرفة متمسكة بالحقوق الإنسانية (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية) للوصول إلى مدرسة أخرى بديلة. ونعتقد أنّ مقاومة هذه الايديولوجيا الليبرالية تستوجب أمورا لا يجب أن تغيب عن كلّ المناضلين والفاعلين الاجتماعيين وهي :
-        عدم الدفاع عن النظام التعليمي التقليدي خاصة وأنّه لا يخلو من الهنات والسلبيات من قبيل البيروقراطية المشطّة والنظرة الضيّقة لوظيفة المدرسة والاكتفاء بمراكمة المعارف وندرة انفتاح المدرسة على المجتمع وإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي وتأبيده وهو ما نبّه إليه بيار بورديو حين اشار إلى " أنّ المدرسة تكون راضية بإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي عندما لا تساهم في مفاقمته".  إنّ المدرسة، قديمها وحديثها، لم تنقطع عن أن تكون جهازا ايديولوجيا يرفد السيطرة المادية للأغنياء.
-        عدم اقتصار مقاومة السياسات الليبرالية في التعليم – وغيره- على نقد النتائج السلبية فقط بل إنّ المقاومة تبدأ في تقديرنا من فهم التحوّلات في إطار تطوّر النظام الرأسمالي عبر التاريخ والوعي بأنّ النضال يبدأ كذلك بنزع القناع عن الخطاب الإنساني الزائف المتواتر في أدب منظمات العولمة الرأسمالية والحكومات والمنظرين السياسيين والبيداغوجيين والصحفيين المتواطئين معها وكشف ازدواج هذا الخطاب وزيف تقدّميته.
-        وأن تبدأ هذه المقاومة كذلك بالنضال ضدّ ذواتنا!!، ضدّ المدرسين والأولياء والنقابات والمنظمات الأجتماعية المستسلمين للقدر الليبرالي والمحبطين أمام الهرسلة الايديولوجية الليبرالية لأنّ النضالات الاجتماعية وبناء البدائل لا يفشلان إلا حين نرفض خوضها!!
إذن، لفهم أوضاع المدرسة الحالية وبناء بدائل أفضل لها لا بدّ للرؤى البديلة أن تتخطّى نوافذ الأقسام وأن تتجاوز أسوار المدارس، بل لا بدّ لها أن تتجاوز حدود الأوطان وذلك بنقد الآليات التي يرتكز عليها النظام الحالي والانتباه إلى ارتباطه بالنظام الاقتصادي والاجتماعي السائد في عموم الدول شمالا وجنوبا.
إنّ مقاومة إعادة الهيكلة الليبرالية للتعليم تتطلّب نضالا متعدّد الأشكال والأمكنة، هو نضال ثنائي التمفصل يعي فيه المناضلون الترابط بين المحلي والعالمي من جهة والقطاعي والاجتماعي العام من جهة ثانية. إنّه لمن الضروري بناء حركة واسعة للمقاومة تجمع بين مّن يناضل ضد قيم السوق عامة وضد التهميش والسياسات الليبرالية. إنّها مقاومة لا تقتصر فيها علاقة نقابات التعليم بالنقابات الوطنية والعالمية الأخرى على المساندة أو الاكتفاء بتنسيق حملاتها معها فقط بل تتجاوز ذلك إلى الانخراط الواعي في وذي الفاعلية في المنتديات والشبكات. إنّه رهان أساسي في هذه المقاومة باعتبار أنّ السياسة التعليمية الجديدة هي كذلك معولمة ولأنّ الغزو الليبرالي الجديد لم يستهدف التعليم منعزلا بل عموم البنية الاقتصادية والاجتماعية في الشمال والجنوب معا.
هناك نوعان من التمفصل : أوّل بين الوطني والعالمي وثان بين المناضلين المهتمين بالشأن التربوي وأولئك الذين يقامون نتائج الساسات الليبرالية في قطاعات أخرى. إنّ هذه الرؤية لم تعد حلما أو مجرّد مقاربة نظرية بل إنّها معركة حقيقية تخاض اليوم في الواقع الاجتماعي. هذا ما ناضلت من أجله نقاباتنا وسائر النقابات والحركات الاجتماعية الأخرى في العالم وهذا ما فجّر الثورة التونسية باعتبارها اجتماعية في منطلقها وغاياتها. من النضالات كذلك ما تخوضه حركات العولمة البديلة والمنتديات الاجتماعية كالمنتدى الاجتماعي العالمي (سينعقد بتونس سنة 2013) أو المنتدى العالمي للتعليم الذي نجح إلى حدّ الآن في عقد دورتين ببورتو أليغري وهي تحركات ميزتها الأساسية قيامها على هذ التمفصل ووعيها به.
ونعتقد أنّه لئن كانت مظاهر قوّة حركات المقاومة اليوم في مواضع كثيرة كامنة في كون تجذّر الوعي لديها بأهميّة الخدمات الاجتماعية يوازي تجذّر إرادة المؤسسات المالية الدولية وكبرى الشركات المتعددة الجنسيات في إخضاع التعليم وسائر الخدمات الاجتماعية إلى منطق السوق والتسليع. غير أنّ الامر يبدو بالنسبة إلينا غير كذلك تماما إذ شهد التعليم – وسائر البنى الاقتصادية والاجتماعية- إعادة هيكلة ليبرالية بلغت مراحل متقدّمة إلاّ أنّ حركة المقاومة مازالت ضعيفة ومشتّتة القوى رغم الجهود الجبّارة المبذولة.
وأخيرا، لعلّ انخراط نقابتنا في هذا المسار النضالي الثنائي التمفصل ومسار بناء المنتدى الاجتماعي التونسي والمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم وغيرهما من المنتديات والشبكات الإقليمية والعالمية رهان أساسي يدفع هذه المقاومة إلى أقصاه ويتيح فرصة حقيقية لبناء البدائل...
مختار بن حفصة
عضو جمعية رّادْ
أوت 2005