mercredi 13 avril 2016


في أربعة أيّام الائتلاف الرباعي الحاكم يعود بتونس قرنا ونصفا إلى الوراء !

عقد مجلس نوّاب الشّعب طيلة أربعة أيّام من نهاية الأسبوع السابق وبداية هذا الأسبوع (الجمعة والسبت والإثنين والثلاثاء) جلسات ماراطونية لمناقشة المشروع الجديد للقانون الأساسي للبنك المركزي. وهو مشروع تقدّمت به الحكومة. وجدير بالتنويه أنّ يدا خفيّة أو 'مسؤولا كبيرا'- كما جاء في أحد زلاّت رئيس الجمهورية - فرض على لجنة الماليّة والجلسة العامة بعد ذلك، أن تضع كل برامج أشغالها جانبا وتقدّم النظر في هذا القانون الأساسي باعتباره أولويّة مطلقة عندهم.

وفي وقت قياسي، تمّت في جلسة مساء الثلاثاء المصادقة على القانون الجديد بـ 73 صوتا فقط وهو الحدّ الأدنى المطلوب لتمريره ممّا يعني أنّ القوى الليبراليّة الداعمة لــ'تحرير' البنك المركزي واستقلاله عن بقيّة مؤسسات جهاز الدولة قد حقّقت المطلوب منها ولو بصعوبة كبيرة.

ولا يحتاج المرء مجهودا كبيرا ليعرف أنّ اليد ظاهرة و'المسؤول الكبير' معروف. فالسلطة التنفيذية هي اليد العليا التي تحكّمت في السلطة التشريعية وأمْلت عليها ما يجب فعله. أمّا المسؤول الكبير فهو ليس إلاّ صندوق النقد الدولي الذي ما فتئت تدخّلاته في السياسة التونسية تتعزّز في السنوات الأخيرة إلى درجة أنّه تجاوز مرتبة المستشار ليصبح الآمر والناهي.

إذن، يندرج هذا القانون في اطار الخطّة التي وضعها صندوق النقد الدولي لتمويل الدولة التونسية التي تعيش صعوبات ماليّة كبيرة فهي بحاجة أكيدة إلى المزيد من الاقتراض وبصدد البحث عن حوالي خُمس ميزانية 2016. هذه الضرورة العاجلة، اضافة إلى عقيدة متزمّتة ترى الحل في المزيد من التداين ومواكبة ايديوجيا العصر المُهيمنة، هي التي دفعت حكومة الائتلاف الرباعي إلى قبول شروط صندوق النقد الدولي لإقراضها 2.8 مليار دولار ومن أبرز هذه الشروط إعداد قانون أساسيّ جديد للبنك المركزي يُعيد هيكلته على نحو يصبح فيه البنك مؤسّسة مستقلة تماما عن تدخّل الدولة والمؤسسات المنتخبة ويتلاءم مع وضع اليد على هذه المؤسسة الهامة ضمانا لديمومة نزيف التداين قبضا وصرفا وتأبيدا لسياسة ليبرالية تقطع الطريق أمام كلّ إمكانيّة لتوجّه بديل في ظل انتفاضة ثورية مازالت آفاقها مفتوحة رغم الانتصار الكبير الذي حقّقته الثورة المضادة. يا للمفارقة فعلى قدر حماس المرافعين على القانون الجديد بصيغته الحالية للاستقلالية نجد لديهم نفس الحماس، وبالقدر نفسه،  لتبعية البنك المركزي للماليّة العالميّة وقوانين السوق.

إنّ المطّلع على فصول القانون الجديد سيتأكّد أنّ نقدنا اللاذع ليس من باب المناكفة الأيديولوجية، فقد تمّ التعبير صراحة في أحد مسودّات تقارير لجنة المالية عن اندراج هذا القانون في اطار التعاون مع صندوق النقد الدولي ليتداركوا هذا القول الصريح في التقرير الرسمي بحذف تلك الجملة وتعويضها بـــ ''مراعاة المعايير الدوليّة''. 

لقد تضمّن هذا القانون الجديد فصلا بين مؤسسة البنك المركزي وبقيّة أجهزة الدولة وتمّ تمرير ذلك بدعوى تحييد البنك عن التجاذبات السياسية وتدخّلات الأحزاب الحاكمة، بمعنى آخر إنّه ضمان لبقاء هذه المؤسسة في اطار الرؤية الليبرالية للمالية بقطع النظر عمّن يصل إلى السلطة من الأحزاب السياسية على اختلاف برامجها وتوجهاتها إنّه إقصاء واضح للسياسة عن الشأن المالي والاقتصادي حتّى لكأن السياسة في عُرف هؤلاء مجرّد هواية نمارسها في أوقات فراغنا.

يطرح القانون الجديد كذلك مسألة أخرى على غاية من الأهمية بالنسبة للممارسة الديموقراطية وهي مسألة الرقابة والمساءلة إذ رفض وزير المالية وعدد من النواب إدراج مسألة المحاسبة والمساءلة في فصول القانون الجديد ولم تنجح جهود المعارضة إلا في تبني صيغة مرنة للغاية وهي المتابعة. إنّ فصلا كهذا وأد صريح وبفظاظة يقلّ نظيرها للديموقراطية ولمبدإ أساسي من مبادئها وهو الرقابة الشعبية المباشرة أو غير المباشرة لمؤسسات الدولة.
هناك فصل آخر من فصول القانون الجديد يمكن نعته دون مبالغة بأنّه سلاح دمار شامل يفتك بالدولة وهو الفصل الذي ينصّ صراحة على إمكانيّة إقراض البنك المركزي للبنوك الخاصة ومنعه منعا باتا أن يقرض الدولة. إذ ينصّ الفص 50 من القانون الأساسي الذي تمّ إلغاؤه سنة 2006 على أنّه يمكن للبنك المركزي أن يُقرض الدولة مبلغا لا تتجاوز قيمته 5 بالمائة من المقابيض الاعتيادية للدولة الحاصلة خلال الميزانية المنصرمة على أن تتجاوز مدة سداد ذلك القرض مدة 8 أشهر. فعوض العودة إلى هذا الفصل الذي يتيح للدولة اقتراض مبلغ مهمّ دون نسبة فائدة (الدولة تقرض ذاتها) يتمّ الذهاب عكس ذلك تماما، أي ضمان خدمة الدولة للبنوك ومحاصرتها في الإنفاق العمومي. إنّ الرفض القطعي لمقترح المعارضة بتعديل الأمور والآلية التي يوفّرها يعني في الحقيقة دفع الدولة التونسية، في صورة حاجتها الملحّة إلى المال، إلى الاقتراض من الساحات المالية الدولية رغم الارتفاع المشط لنسب الفائدة وضعف الترقيم السيادي. بهذا المعنى يصبح هؤلاء البرلمانيون المرافعون - ومن ورائهم حكومتهم - على منع الدولة من إقراض نفسها نسبة الـ 5 بالمائة هم في حقيقة الأمر نوّاب للمالية العالمية ومؤسساتها ولا علاقة لهم بتمثيل الشعب ومصالح تونس وسيادتها. 

إنّ هذا القانون الجديد يدشّن بوضوح الطور الثاني من علاقة الأيديولوجيا الليبرالية المحلية والعالمية بالدولة التونسية فبعد أن تمّ توظيف الدولة لتفكيك الاقتصاد عبر الخصخصة وفتح المجال أمام رأس المال الخاص وشيوع اقتصاد السوق  طيلة عشريتيْن ها هي اليوم تعمل جاهدة على نزع بقية أسلحتها واستبعادها من مجال السياسة النقدية والاقتصادية عموما عبر مراجعة مختلف القوانين ومنها البنك المركزي ومجلة التشجيع على الاستثمار وغيرهما. إنّ تبنّي هذا القانون تحقيق لحلم عبّر عنه روتشيلد حين قال : '' امنحوني السيطرة على عُملة أمّة مّا، ولن أحتاج للانشغال بأولئك الذين يسنّون قوانينها''.

إنّ صندوق النقد الدولي والسياسيين ووكلاءه المحليّين في الحكومة والبرلمان يعبّدون طريقا سريعة لدعم الوصاية والاستعمار الجديد ليعمّق بسط نفوذه على تونس. إنّ ما يتمّ اليوم في السياسة المالية والاقتصادية صورة جديدة لمشهد قديم وإحياء للكومسيون المالي الذي وضع المالية العمومية التونسية تحت رقابته المباشرة بعد دورة جهنمية من التداين. ها إنّ التاريخ يعيد نفسه في شكل مأساة. وها إنّ الإئتلاف الرباعي الحاكم يعيدنا قرنا ونصفا إلى الوراء في ظرف أربعة أيّام 

 فلنعمل جميعا على وقف هذا العدوان الاستعماري الجديد.
مختار بن حفصة
13 أفريل 2016

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire