mercredi 9 février 2011

السياسة التعليمية الجديدة في تونس والاتفاق العام حول تجارة الخدمات.

لعلّ أبرز أطروحة يستند إليها الخطاب الليبرالي المهيمن عالميا ومحليا هي أنّ المنافسة وتحرير التجارة هما الطريقة الأفضل في النشاط الاقتصادي العام. ولذلك أخضعت كلّ مجالات الحياة الاقتصادية إلى المنافسة وإلى مسار تصاعدي من التحرير التجاري. ولم تكن الخدمات الاجتماعية مستثناة من ذلك إذ أخضعت هي الأخرى إلى منطق التسليع.
وبما أنّ دخول حلبة المنافسة على المستوى العالمي يستوجب عدّة وكفاءة لازمتين أولت الإيديولوجيا الليبرالية اهتمامها بالمدرسة جاعلة إيّاها مخبرا يضمن إنتاج اليد العاملة – الرأسمال البشري- التي تتوفر فيها الشروط الضرورية لحسن سير الاقتصاد وسوقا واسعة للاستثمار والتبادل تمكّن من مراكمة الأرباح.
إنّ هاتين السمتين لمدرسة اليوم و"الغد" هما اللّتان تفسّران ذلك التماثل الكبير بين الخطاب الاقتصادي الليبرالي والخطاب البيداغوجي والسياسي السائد حول المدرسة. وهذا التماثل هو الذي دفعنا إلى محاولة فهم الآليات التي يتمّ بها تحويل التعليم إلى سلعة وذلك من خلال البحث في الروابط الجامعة بين النظام التعليمي الجديد- الذي بدأ منذ 1998- الوارد تحت شعار " مدرسة الغد" وما أعّدته منظمة التجارة العالمية للمدرسة في إطار الاتفاق العام حول تجارة الخدمات.
ماذا عن منظمة التجارة العالمية والاتفاق العام حول تجارة الخدمات؟
بعثت منظمة التجارة العالمية إلى الوجود رسميا في 1 جانفي 1995 وذلك بعد إمضاء الدول المشاركة، ومن ضمنها تونس، على النص الختامي في ندوة مرّاكش في أفريل 1994 وتعتبر ندوة مراكش هذه اختتاما لمفاوضات دورة الاورغواي التي دامت ثماني سنوات في إطار الاتفاق العام حول التعريفات الجمركية والتجارة.(الغات).
وهكذا عوضت منظمة التجارة العالمية الغات لتصبح بذلك مؤسسة دولية تتوفّر على قانون أساسي مفصل ودقيق خلافا للغات الذي كان عبارة عن منتدى للتفاوض. ويعدّ تأسيس هذه المؤسسة الدولية العملاقة علامة على انتصار الأطروحة الليبرالية الساعية إلى تحرير التجارة على النطاق العالمي.
ولا يمكن لأي دولة ممضية على نص مراكش الختامي أن تعود إلى السياسة الحمائية أو أن تتبنى أي قانون من شأنه أن يمثّل حاجزا جمركيا يعيق حركة التبادل التجاري الحرّ. بل على العكس من ذلك فإنّ الإمضاء على هذا النص المؤسس للمنظمة يعني الالتزام بالتحرير المستمر للتجارة وتفكيك الحواجز الجمركية وذلك عن طريق مسار من المفاوضات ما يزال مستمرا. وإلاّ عوقب كل من يخالف ذلك بمثوله أمام هيئة التحكيم الموجودة صلب هذه المنظمة.
وقد تضمن اتفاق مراكش أربع اتفاقيات متعددة الأطراف هي : الاتفاق العام حول البضائع،الاتفاق العام حول تجارة الخدمات،الاتفاق العام حول حقوق الملكية الفكرية، الاتفاق المؤسس لمنظمة التجارة العالمية.
يندرج التعليم باعتباره خدمة ضمن الاتفاق العام لتجارة الخدمات وهو ما يستلزم تعريفا بهذا الاتفاق قبل تبيّن الصلات الموجودة بينه وبين النظام التعليمي الجديد.
إنّ الاتفاق العام حول تجارة الخدمات هو مجموعة الاتفاقيات المتعددة الأطراف المتعلّقة بتحرير تجارة الخدمات المختلفة وقد تم التفاوض بشأنه في دورة الاورغواي واتفق عليه في ندوة مراكش المذكورة آنفا. ويمكن اعتباره اتفاقا إطاريا عاما يتحقّق في إطاره مسار مفتوح وذو نسق متصاعد من التفاوض حول تحرير تجارة الخدمات. ولم يستثن هذا الاتفاق إلاّ الخدمات المتعلقة بسيادة الدولة وما به تمارس سلطتها أي الإدارة والبوليس والجيش والقضاء (البند الأول من الاتفاق) ويفصل البند الأول هذا الاستثناء بالقول إنّ ما يستثنى تحديدا هو : " الخدمة التي لا تقدّم على قاعدة تجارية أو في تنافس مع كلّ من يقدّمها " وبذلك تدخل تحت طائلة هذا الاتفاق مختلف الخدمات التي يمكن تصنيفها كما يلي
- خدمات اجتماعية كالصحة والتعليم...
- خدمات عمومية كالنقل والماء والكهرباء والبريد والاتصالات...
- خدمات متعلقة بالبضائع بعد إنتاجها (نقلها، توزيعها، إصلاحها وصيانتها...)
وهكذا إذن تغطى الخدمات عددا كبيرا من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية في كل بلد من البلدان وبذلك تبدو وظيفة المفاوضات الدائرة في صلب منظمة التجارة العالمية حول الخدمات إزاحة الدولة من مجال هذه الأنشطة ونقلها إلى القطاع الخاص. فهذا الاتفاق ليس قانونا ناجزا وتاما بل هو بداية المفاوضات ونقطة انطلاقها. ويمكن إجمال خطاب منظمة التجارة العالمية حول تحرير تجارة الخدمات في حجتين أساسيتين تتعلق الأولى بضرورة هذا التحرير وأهميته أمّا الثانية فوظيفتها بث الطمأنينة والردّ على كلّ المنتقدين للاتفاق أو المتخوّفين من تبعاته.
تقول الحجة الأولى إنّ لهذه الخدمات وللبنى التحتية الضرورية ثمن باهظ. فهي تمثل عبئا ماليا كبيرا ملقى على كاهل الدولة وهو ما قد يجعلها عائقا بارزا في طريق تحقيق الازدهار والتنمية واستنادا إلى ذلك تذهب منظمة التجارة العالمية، وهي في ذلك رافد للخطاب الليبرالي الدوغمائي السائد في المؤسسات الدولية الأخرى، -لاحظ توافق ذلك مع مخططات التكييف الهيكلي- إلى أنّ فتح هذه الخدمات أمام المنافسة وتحريرها هو وحده الكفيل بضمان هذه الخدمات بشكل ناجع وأن تكون ذات جودة عالية ويمنح للمستهلكين مجالا واسعا للاختيار ويضمن حصول الجميع عليها باعتبار أنّ المنافسة ستفضي إلى انخفاض الأسعار. كما لا يفوت منظمة التجارة العالمية في إطار هذا البناء الإيديولوجي التأكيد على أنّ إخضاع هذه الخدمات إلى المنافسة من شأنه أن يوفر عددا كبيرا من مواطن الشغل.
أمّا الحجّة الثانية فتزعم الردّ على النقد والاحتجاجات على هذا الاتفاق بالاستناد إلى ثلاثة مبادئ رئيسية : الأول هو أنّ الخدمات المتعلقة بسيادة الدولة مستثناة من الاتفاق والثاني هو أنّ الاتفاق يتيح للدول إمكانية استثناء بعض القطاعات وأنّ نسق التحرير تحدّده الدولة نفسها وبمحض إرادتها. أمّا المبدأ الثالث فهو يشير إلى إمكانية التراجع عن بعض الالتزامات ولكن يستوجب ذلك الامتثال إلى بعض الشروط التي يضبطها الاتفاق.
وهكذا يكون الاتفاق العام حول تجارة الخدمات، دون أيّ لبس، اتفاقا شاملا للتعليم ذلك لأنّ التعليم في أغلب بلدان العالم خدمة لا تقتصر الدولة على توفيرها بل إنّ القطاع الخاص يشاركها في ذلك وهو ما ينطبق على تونس منذ سنوات عديدة. وبناء على ذلك يكون خدمة ذات قاعدة تجارية وقابلا للمنافسة وهو ما يستوجب خضوعه إلى كلّ الاتفاقيات المتعددة الأطراف الحاصلة في إطار التفاوض في صلب الاتفاق العام حول تجارة الخدمات وهو ما يعني تهافت الحجتين اللتين تستند إليهما منظمة التجارة العالمية.
نظام التعليم الجديد في تونس وعلاقته بالاتفاق العام حول تجارة الخدمات
سنركّز في بحثنا عن مدى ملائمة هذا النظام التعليمي للاتفاق العام حول تجارة الخدمات على قانون عدد 80 الصادر في 23 جويلية 2002 والوارد تحت عنوان " القانون التوجيهي للتربية والتعليم " وذلك باعتباره نصا قانونيا مفصلا وملزما. ولكنّه في الحقيقة ما هو إلاّ تتويج لكلّ مراحل بناء مشروع مدرسة الغد الذي انطلق منذ بداية جانفي 1998 والذي عبّرت عنه مختلف الوثائق الصادرة عن وزارة التربية (الوثيقة المرجعية لمدرسة الغد وغيرها من الوثائق والمنشورات الأخرى).
ورد في تصدير الوثيقة المرجعية لمدرسة الغد إشارة إلى خطاب رئيس الدولة كان قد ألقاه في 15 جويلية 1995 بمناسبة يوم العلم مفادها أنّ " من أهمّ ما يميّز تمشّينا منذ التغيير أنّنا نفضّل ضبط الميعاد على الصدفة والتنظيم على الارتجال وإعداد العدّة على الانتظار". ولا نعتقد أنّ تصدير النصّ المؤسس لمنظومة تربوية جديدة بهذا القول أمرا اعتباطيا. فالأمر، فيما يخصّ التعليم، يتعلّق فعلا بـ "ضبط الميعاد وإعداد العدّة" ذلك أنّ شهر جويلية 1995 لم يرد متأخّرا كثيرا عن شهر جانفي 1995! وهو تاريخ إنشاء منظمة التجارة العالمية. ولا نعتقد أنّ حكومة تكون دولتها عضوا في هذه المنظمة منذ تأسيسها تتأخّر كثيرا عن إعداد العدّة لملائمة مختلف القطاعات لقوانين هذه المنظمة التي أمضت عليها ومن ضمنها طبعا قطاع التعليم في مختلف مراحله.
كما ورد في نفس الوثيقة المرجعية إشارة أخرى تفيد أنّه " قد تشكّلت في بداية جانفي 1998 لجنة موسّعة تضمّ 50 عضوا يمثّلون مختلف الوزارات والهيئات التي لها صلة بقطاع التربية والتكوين".1 وتبدو هذه الإشارة بدورها ذات دلالة ذلك أنّ الفصل التاسع عشر من الاتفاق العام حول تجارة الخدمات يؤكّد عـلى أنّ " الأعضاء سيلتزمون بسلسلة من المفاوضات المتتابعة والتي تبتدئ كآخر أجل خمس سنوات (السطر من وضعنا) بعد دخول الاتفاق حول منظمة التجارة العالمية حيّز التنفيذ ". وهكذا تكون الحكومة التونسية ملتزمة بهذا الأجل إذ بعد ثلاثة أعوام من الإمضاء على اتفاق مراكش بدأ الإعداد للمنوال التعليمي الجديد الذي يراعي ما ورد في الاتفاق العام حول تجارة الخدمات الذي أمضي سنة 1995. ثمّ إنّ الحكومة تركت حيّزا زمنيا هامّا يقدّر بسنتين لإجراء ما تسمّيه استشارة وطنية حول التعليم وهي مدّة كافية للإيهام بأنّه إبداع تونسي خالص شارك كلّ المعنيين بالشأن التربوي في صياغته. وما إن انتهي أجل السنوات الخمس الذي أكدت عليه أحد فصول الاتفاق العام حول تجارة الخدمات حتّى وجدت الحكومة نفسها قد حقّقت هدفين دفعة واحدة : الإيفاء بالتزاماتها الدولية من جهة والإيهام بأنّ مشروع إصلاح التعليم مشروع وطني شاركت كلّ الأطراف المعنية في صياغته وبذلك نفهم لماذا صدرت الوثيقة الأولى الضابطة للخطوط العريضة للسياسة التعليمية سنة 2000 (الاستشارة الوطنية حول مدرسة الغد – الوثيقة المرجعية، أكتوبر 2000 ) فلا يذهب بنا الظنّ أنّها استعداد محليّ لدخول قرن جديد، بل هي بكلّ بساطة سنة ينتهي فيها الأجل المتفق عليه في مراكش سنة 1995 الذي يدشّن فيه الرأسمال العالمي القرن الجديد بتوسيع دائرة التبادل الحر بشكل غير مسبوق.
تبدو العلاقة جليّة بين تاريخ ظهور هذا المشروع الجديد للمدرسة التونسية المسمّى بـ"مدرسة الغد" وتاريخ إنشاء منظمة التجارة العالمية والإمضاء على الاتفاق العام لتجارة الخدمات. إنّ تاريخيْ 1995 - 2000 يشيران إلى ضرورة التزام الحكومات بما يتمخض عن مسار المفاوضات المتعلقة بتحرير تجارة الخدمات وإلى تحوّل "مدرسة الغد" من مشروع إلى إنجاز وإجراء إذ فليس إصدار أوّل وثيقة عنه سنة 2000 محض صدفة أو أنّ الاستشارة الوطنية أخذت حقا الوقت الكافي للنقاش والتفكير والتعديل. وهناك معطى آخر يمكننا أن نفسّر به ظهور هذه السياسة التعليمية الجديدة في ذلك التاريخ تحديدا (1995-2000 إعدادا وبعد ذلك تطبيقا) وهو أنّه تاريخ يتوافق مع توقيع تونس على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي يمثّل التبادل الحر جوهرها وبذلك تصبح الإيديولوجيا الليبرالية مهيمنة محليا وإقليميا وعالميا لتعكس بذلك اكتساح السوق كافّة أرجاء المعمورة وجميع مجالات الحياة. هكذا نفهم العلاقة بين بروز منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التبادل الحر في مختلف أنحاء العالم.
هذا فيما يخصّ الإطار التاريخي الذي ظهر فيه المشروع الجديد للمدرسة التونسية فماذا عن مدى تطابقه مع مبادئ الاتفاق العام حول تجارة الخدمات؟
إنّ قارئ هذا القانون يقف على المرونة الكبيرة التي وردت عليها مختلف فصوله، فكثيرا ما نجد الفصل القانوني لا يبتّ في موضوع اهتمامه بتّا تامّا أو يضبطه ضبطا نهائيا. وتكثر في هذه الفصول الصيغ اللّغوية الدّالة على الإمكان والتغير من قبيل " التكيف مع المتغيرات "2 و" يمكن للأشخاص الطبيعيين والمعنويين إحداث مؤسسات تربوية خاصّة.."3 و" يمكن إعداد مؤسسات تعليمية خاصة تعتمد برامج وتنظيمات خصوصية..."4 هذا إضافة إلى ما ورد في مقدمة القانون من حديث عن " التحولات الجوهرية التي تشهدها المدرسة اليوم واعتبارا لمتطلبات المستقبل التي ستغيّر دعائم التكوين ومكونات الفعل التربوي وقواعد سير المؤسسة التربوية أصبح تطوير الإطار القانوني المنظم للتربية والتعليم ضرورة حتى يتّسع لهذه المتغيرات ويوفّر المرونة اللازمة لمسايرة إيقاع التحوّلات الداخلية والعالمية"5.(السطور من وضعنا) أو كذلك عبارة " تضبط بقرار من الوزير المكلّف بالتربية والتعليم" والمتواترة في العديد من فصول القانون السبعين.
إنّ هذه المرونة التي بني عليها النصّ القانوني كثيرا ما يروّج استنادا إليها لمسألة التجدّد المستمرّ لمكونات المنظومة التربوية ومواكبة العصر وأهمية الاستشراف والتطلع إلى المستقبل إلى غير ذلك من الكلام المنمّق الذي أعدّ للاستهلاك المحلّي والمترنّح بنشوة العقلانية والروح النقدية والفكر التاريخي دون أن يكون كذلك حقا... ولكنّ الهدف من ذلك هو في الحقيقة جعل المنظومة التربوية في مرونتها وانفتاحها ملاءمة لمرونة الاتفاق العام حول تجارة الخدمات باعتباره مسارا مفتوحا للتفاوض وتجديدا مستمرّا للصيغ القانونية المتعلقة بمختلف الخدمات بما فيها التعليم. فهذا الاتفاق ليس ناجزا ونهائيا كما ينص على ذلك فصله التاسع عشر ولذلك جاء القانون التونسي مراعيا لهذه الخاصية بحيث يمكنه أن يتضمّن كلّ ما قد يستجدّ من اتفاقيات ملزمة صادرة عن مسار التفاوض صلب منظمة التجارة العالمية فعندما نقرأ ما ورد في خاتمة مقدمة القانــــون " وخلاصة القول إنّ هذا القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي يمثّل إطارا تشريعيا مرنا يتّسع لكلّ التحوّلات التي تشهدها المدرسة اليوم ولتطوّراتها المستقبلية. " نتبيّن إلى أيّ مدى يستجيب القانون التونسي لبنود الاتفاق العام حول تجارة الخدمات.
ولقد أفرد للقطاع الخاص في القانون الجديد عنوان خاص به يتكوّن من سبعة فصول، إضافة إلى بعض الإشارات في الفصول والأبواب الأخرى من القانون كالفصل التاسع والعشرين الذي أورد: " ...إذ تجري الدراسة في المؤسسات العمومية والخاصّة.." أو في الفصل الثامن والثلاثين : " ويمكن للأشخاص الطبيعيين والمعنويين إحداث مؤسسات تربوية خاصة." فهي إشارات وفصول تنصّ كلّها على ضرورة فتح مجال التعليم أمام الخواص سواء أكان رأس مال محليّ أو أجنبي والتشريع لحقوقه قانونيا. ويشترط على الرأسمال الأجنبي الحصول على ترخيص من الوزارة المكلفة بالتربية، ولكنّنا نعتقد أنّ ذلك ليس أمرا صعبا بطبيعة الحال وهو ترخيص شأنه شأن كلّ التراخيص اليسيرة الممنوحة للرأسمال الأجنبي والقوانين الحامية لحقوقه (قانون الاستثمار) أمّا التراخيص الصعبة، بل المستحيلة، فهي تلك التي تطلبها- رغم أنّها حقّ لا يحتاج إلى طلب- الأحزاب والجمعيات التي لا تبحث عن الربح الخاص بل عن المصلحة الاجتماعية العامة المتمثّلة في جعل التعليم حقا مجانيا مضمونا للجميع وغير خاضع للمنافسة وذا جودة يتمتع به كل التونسيات والتونسيين. فالأسلم أن تسهر الدولة على ضمان حقوقهم لا أن تضمن حقوق رأس المال على حسابهم.
أمّا الفصل التاسع والثلاثين فينصّ على أنّه " على المؤسسات التربوية الخاصة أن تنتدب جزءا من المدرّسين للعمل بها كامل الوقت..." وهو ما يتلاءم مع حجة كهنة منظمة التجارة العالمية القائلة إنّ توفير مواطن الشغل منفعة من منافع تحرير تجارة الخدمات العمومية. ويكفينا في هذا السياق أن نشير إلى الارتفاع المهول لعدد المعطلين من خريجي الجامعة وخصوصا منذ بداية اتّباع هذه الساسية التعليمية التي تطوّع التعليم والتشغيل لمصالح الرأسمال العالمي ملغية كلّ اهتمام بهما باعتبارهما من الأوليات الاجتماعية ومن الركائز الأساسية لتنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.
إنّ هذه الإشارات تعني في نهاية المطاف جرّ التعليم العمومي إلى حلبة المنافسة. وهي منازلة ستنتهي بانتصار رأس المال بالضربة القاضية بما أنّها تجمع بين ملاكم تزيده الأرباح تعملقا وآخر جعلته سياسة التقشف والضغط على المصاريف العمومية الخاصة بالتعليم (وغيره) في وزن الريشة لا يقوى حتّى على الحركة!
وحتّى لا يكون حديثنا عن هذا الباب القانوني مجرّد لغو نشير إلى أنّه ورد في تلاؤم تام مع ما ورد في الاتفاق العام حول تجارة الخدمات، إذ ينصّ الفصل السادس (الفقرة الرابعة) من الاتفاق العام حول تجارة الخدمات على أنّ " التشريعات والإجراءات القانونية والإدارية للسلطات المركزية والجهوية والمحلية للدول لا يمكنها أن تكون متشدّدة أكثر من اللازم حتّى لا تكون عقبات غير ضرورية أمام تجارة الخدمات". ثمّ إنّ اتفاق منظمة التجارة العالمية هذا يؤكّد بوضوح على إلزامية مبدأ " المعاملة بالمثل" ما أن يقع الاتفاق على تحرير تجارة خدمة من الخدمات. ولا يؤكد هذا المبدأ على المعاملة بالمثل بين الرأسمال الأجنبي والرأسمال المحلي فقط، وإنّما بينه وبين الدولة أيضا ما دامت هي أيضا توفر هذه الخدمة. إنّه وجه آخر من وجوه تلك المنازلة اللامعقولة التي تحدّثنا عنها آنفا.
هناك مسألة أخرى يؤكد عيها القانون قد تبدو إلى الناظر إليها من أول وهلة أنّه لا يراد منه خوصصة التعليم تماما بل إنّه سيستمر قطاعا عموميا كذلك فالفصل التاسع والعشرون يقول : تجري الدراسة في المؤسسات العمومية والخاصة التالية : مؤسسات وفضاءات تعنى بالتربية قبل المدرسية، مدارس ابتدائية، مدارس إعدادية، معاهد، مدارس نموذجية، مدارس افتراضية ". ويرد بالفصل الرابع " تضمن الدولة حقّ التعليم مجانا بالمؤسسات التربوية العمومية لكلّ من هم في سنّ الدراسة..."
إنّ الأمر لا يتعلّق إذن بتخلّي الدولة تماما عن التعليم وإنّما فتح المجال أمام القطاع الخاص ولكن دون أيّ حماية بل يدفع بهما إلى المنافسة فيصبح هناك نمطان من التعليم : أوّل عمومي ضعيف وغير قادر على المنافسة بسبب ضعف المبالغ المرصودة له ومخصص للفقراء وآخر خاص يستثمر أموالا كبيرة ولا يمكن أن يتاح إلاّ للأغنياء. بل إنّ النمط الأول يحتاج إلى أن توفّر الأسر مبالغ هامة من مداخيلها (الأدوات الحديثة والمتطورة، السكن الجامعي، الدروس الخصوصية، النقل...الخ). هذا هو بالضبط مدلول الحجة الواردة في خطاب منظمة التجارة العالمية القائلة أنّ تحرير خدمة مّا ليس إلزاميا فعدم الإلزام عندهم لا يعني شيئا آخر عدا التعايش بين القطاع الخاص والعمومي في تقديم خدمة التعليم مثلا لكن بشروط المنافسة التي أكدت عليها مختلف فصولها والتي تطرقنا إلى بعضها في الفقرات السالفة واستعرنا لها صورة حلبة الملاكمة.
إنّ الأمر يتعلق بتسليع التعليم أيْ أنّه بسبب هذا القانون، سيصبح سلعة مثل سائر السلع ولكنّه لم يعد "مجانيا" تماما كما أشار إلى ذلك الفصل الرابع المذكور أعلاه. فالدولة العضو في منظمة التجارة العالمية لم يعد بمقدورها، بعد المفاوضات أن ترصد مبالغ مالية هامة لفائدة التعليم العمومي وذلك لسببين أثنين : إجراءات التكييف الهيكلي تملي عليها التقشّف في المصاريف العمومية وقوانين منظمة التجارة العالمية تفرض عليها مبدأ "المعاملة بالمثل".
جاء في الفصل 47 "... كما تضمّ الأسرة التربوية الأولياء والتلاميذ والجمعيات ذات العلاقة من خلال ممثّليهم بمجالس المؤسسات التربوية."
أي أنّ التسيير لا يهمّ المجلس البيداغوجي فقط وإنّما مجلس المؤسسة كذلك أي القطاع الخاص الذي يمكنه أن ينضم إلى المجلس فيموّل ويسيّر المؤسسة وهو صورة أخرى من صور التساوق بين السياسة التعليمية المحلية والسياسة العالمية لتجارة الخدمات فالجميع، محليا وعالميا يعمل لهدف واحد : التحرير الكامل للتجارة والمتجارة بكلّ شيء. إنّها صياغة جديدة لعقيدة قديمة : دعه يعمل دعه يمرّ! فلا حواجز جمركية ولا قوانين تحمي بعض القطاعات الحيوية أو تضمن احتكار الدولة لها.
أمّا الفصل الـ66 المتعلق بالبحث والتجديد في المجال التربوي فأورد : "يمثل البحث عاملا أساسيا في تحسين جودة العملية التربوية والارتقاء بمردود المدرسة وتأهيلها المطّرد تجسيما للأهداف المنشودة ومع اعتبار المعايير الدولية في المجال..."
وهو قول لم يقع التنصيص فيه على المرجعية البيداغوجية والعلمية لـ "المعايير الدولية " ولا نعتقد أنّ ذلك كان سهوا بل قصدا....ثم إنّ الفصل الموالي (67) يضبط مجالات البحث متجاوزا ما هو بيداغوجي ومنهجي إلى " استشراف التحولات في مجال التربية والتعليم" دون التأكيد على التحولات في المعارف البيداغوجية وإلى "التعرّف على المستجدات العالمية والاستفادة منها " أفلا تكون هذه المستجدات شاملة للاتفاقيات المتعددة الأطراف الجديدة التي قد يتوصل في مسار التفاوض المفتوح حول تجارة الخدمات؟
إنّ القانون التوجيهي للتربية والتعليم ومختلف النصوص الأخرى المؤسسة للسياسة التعليمية الجديدة يؤكّد إذن على ضرورة الاستفادة من المنظمات الدولية بنفس القدر الذي يؤكد فيه على المرجعية الوطنية لهذه السياسة وهو ما يجعل التماثل واضحا هذه المرة ولا يستوجب منّا تأويلا أو مقارنة بين فصول القانون ومبادئ الاتفاق العالم حول تجارة الخدمات. فقد جاء في مقدمة القانون التوجيهي : " وقد أغنيت هذه المرجعية الوطنية ببرامج المنظمات الدولية المختصة وأدبياتها...".
فما هي هذه المنظمات؟ هل إنّ الاتفاق العام حول تجارة الخدمات يندرج ضمن هذه الأدبيات المتحدّث عنها؟ أليس الابتداء بالحديث عن المرجعية الوطنية والإطناب فيه وإيجاز الكلام عن برامج المنظمات الدولية وأدبياتها تضليلا وتمويها؟ ممّ تخاف الحكومة : من الصراحة أم من بروز حركات رفض ومقاومة لهذه السياسة أم من افتضاح أمرها؟ على كلّ حال فإنّنا نعتقد أنّ سكوتها أو إيجازها في الكلام عن ذلك في أحسن الأحوال إنّما هي تطنب في الإشارة إلى أنّ القانون الجديد غير اجتماعي ولا يلبّي انتظارات الشعب التونسي من المدرسة. أفلا يعلم علماء بلاغة الرطانة في الوزارة أنّ الإيجاز والإشارة أبلغ من الثرثرة وأوضح منها؟!
هذه حصيلة بحثنا في نصيّن قانونين متزامنين محلي ودولي: القانون التوجيهي للتربية والتعليم والاتفاق العام حول تجارة الخدمات. وهي حصيلة تؤكّد أطروحة مماثلة المحلي للدولي- قد لا تكون مماثلة كلية- في عصر رأسمالية التبادل الحر وتسليع كلّ شيء. ولئن كان التعليم وغيره من القطاعات الاجتماعية الأخرى في ما مضى قطاعا عموميا وإن بدرجات متفاوتة قطاعيا وجغرافيا فإنّ ذلك ما كان ليكون لولا نضالات ومقاومة اجتماعية نجحت في كبح جماح رأس المال المتوحش وهو ما يعني أن المسألة ليست قضاء مبرما وأنّه من الممكن صدّ هذا الوحش أو حتى القضاء عليه حتى لا يعود أكثر شراسة بعد جرحه.
مختار بن حفصة
نقابي وعضو راد أتاك تونس
1 الاستشارة الوطنية حول مدرسة الغد- الوثيقة المرجعية، أكتوبر 2000.
2 القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي الفصل 10 ص 21
3 نفس المرجع. الفصل 38 ص 35
4 نفس المرجع. الفصل 40 ص 35-36.
5 نفس المرجع " المقدمة : في القانون التوجيهي للتربية والتعليم" ص 5-6.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire