mercredi 9 février 2011

مشروع الإصلاح التربوي الجديد : التعليم من خدمة اجتماعية إلى سلعة

مشروع الإصلاح التربوي الجديد : التعليم من خدمة اجتماعية إلى سلعة
» هل يبلغ القدر إلى حدّ أنّه هناك من ينشئ المعارف، من جهة ومجموعة عليها تنفيذها، من جهة ثانية، وما بين الاثنين يوجد منوال للمدرسة يقوم بتحويل ما يجب القيام به من الأعلى إلى الأسفل لتأبيد اتفاق اجتماعي؟ «
بيير بورديو
» لنكن واقعيين، فلنطلب المستحيل!«
أحد شعارات الطلبة في مظاهرات ماي 1968
أصدرت الحكومة التونسية في جويلية 2002 »القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي« بعد أن كانت أعدّت سنة 1991 »مشروع الإصلاح التربوي« وبذلك تكتمل ملامح خطة السياسة التربوية الجديدة، وهي خطّة تكشف سعي الحكومة المتواصل منذ بداية التسعينات نحو مراجعة المنظومة التعليمية بمختلف أبعادها.
ولئن بدت المنظومة التعليمية الحالية بحاجة إلى المراجعة والتغيير فإنّنا لا نجد في "سوق الأفكار" إلاّ مشروعا واحدا هو ذاك الذي بدأت الحكومة بالتأسيس له منذ نهاية التسعينات سواء على المستوى النظري أو على مستوى التطبيق. بل إنّ الدراسات والنقاشات المتعلّقة بهذا المشروع تكاد تكون منعدمة ولكن ذلك لا يعني غيابا كلّيا للبدائل.
وسنحاول في هذا النصّ أن نقف عند أبرز خصائص هذه النظام الجديد الذي أعدّ للمدرسة آملين بذلك أن نسهم في فتح النقاش وتعميقه. ونعتقد أنّ الاهتمام في البداية لا بدّ أن يركّز على تحليل هذا المشروع وفهم طبيعته ومقاصده انطلاقا من كشف المفارقة بين ظاهر الخطاب وحقيقة مضامينه وهي خاصية لاحظناها أثناء قراءة "الرهانات" التي ركزت عليها الوثائق الثلاث المؤسسة لمشروع مدرسة الغد1. فلكي ننتقل من الصمت شبه التام إلى المقاومة واقتراح البدائل لابدّ لنا من الفهم أوّلا وذلك بالتركيز على المحاور الرئيسية لهذه السياسة الجديدة والكشف عن المقاصد الحقيقية للتشريعات المؤسسة لـ"مدرسة الغد" و "رهاناتها" باحثين عن الصلة بين مراجعة النظام التعليمي ومراجعة السياسة الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة منذ نهاية سنوات 1980 والتي أعلنت، في إطار برامج التعديل الهيكلي، عن بداية تخلّي الدولة عن الخدمات الاجتماعية. كما سنحاول من جهة أخرى أن نبحث في الصلة بين هذا المشروع الجديد للتعليم وما أعدتّه مختلف مؤسسات الرأسمال العالمي فيما يخص السياسة التعليمية.
يقولون لنا : » إنّه مشروع جديد نابع من استشارة وطنية موسّعة وذو مرجعية وطنية...«
هناك خاصية أساسية لا بدّ من الوقوف عندها حين نتأمل مختلف التشريعات والقوانين المؤطّرة لهذا المشروع الجديد وهي تأكيدها على أنّه مشروع نابع من استشارة جماعية واختيار وطني اتّفق عليه كلّ من له صلة بالشأن التربوي. كما لا تغفل التأكيد على أنّه نابع من إرادة رئيس الدولة في " برنامجه المستقبلي" موهمة إيّانا بأنّه لا تناقض بين الأمرين مادام البرنامج الرئاسي نابعا من إرادة عموم الشعب وإجماع مختلف الأطراف الوطنية! فقد جاء في نص مشروع مدرسة الغد » وفي ضوء ما جاء في البرنامج المستقبلي لسيادة الرئيس من خيارات وتوجهات أسست لمرحلة جديدة من التغيير وهيأت لبناء مجتمع المعرفة في كلّ أبعاده، وفي جوهرها المنظومة التربوية بكلّ مكوناتها، وبناء مدرسة الغد، أذن سيادته بتكوين لجنة من الخبراء لتدقيق صياغة التقرير التأليفي لأعمال اللجان وإثرائه بما جاء في البرنامج الرئاسي.2« كما ورد في مقدّمة كتيّب " الخطّة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007 ما يلي : » ...وبذلك تشكّلت مرجعية وطنيّة واضحة المعالم يمكن أن نؤسّس عليها مشروع مدرسة الغد « (ص 8).
لا..! إنّه مشروع لم يحظ بنقاش أغلب الأطراف الوطنية والاجتماعية (الأحزاب، النقابات، الأولياء، الجمعيات..) فكانت الاستشارة فيه شكلية. ولا هو بنابع من الأسفل نحو الأعلى بل هو من صياغة لجان تكنوقراطية ضيّقة لا تضمّ بالتأكيد كلّ من تسوّل له نفسه إجراء نقاش ديموقراطي وتفكير حرّ ومستقل في المسألة. وهي لجان لا نرتاب في أنّها خاضعة لتأثيرات القوى المهيمنة في مجتمع غدت فيه الثنائية الاجتماعية تزداد أكثر فاكثر.
أمّا عن المرجعيّة الوطنية لهذا المشروع فلسنا بحاجة إلى ذكاء أصحاب القرار وقدرتهم على تحليل الأوضاع واقتراح بدائلهم الليبرالية حتّى نتبيّن إلى أيّ مدى يمثّل هذا المشروع استجابة لتعليمات رأسمال عالمي أسال لعابه قطاع التعليم الذي جعل غزوه على جدول أعماله العاجلة وذلك في عموم أنحاء العالم. فهل يعني ذلك أنّ تونس استطاعت، في خضمّ هذا الكوكب- الغابة التي جعلها وحوش الليبرالية تحت نفوذهم التام، فرض اختياراتها الوطنية؟
إنّنا سنريح أنفسنا من عناء الإجابة والتفكير مادام محرّرو هذه القوانين والتشريعات لا يخجلون من الوقوع في تناقض صارخ بين زعمهم بـ"المرجعية الوطنية "واعترافهم الصريح بضرورة مواكبة تغيرات العصر ومسايرة نسق العولمة وربط التعليم بالتحولاّت الاقتصادية قائلين : » من شروط العمل في الأنماط الإنتاجية الحديثة (في المجتمع ما بعد الصناعي، مجتمع العولمة) أن يكون الشغّالون قادرين على التكيّف يحسنون استغلال المعلومات ويستعملون بفضل قدرتهم على التخيّل والابتكار تحليل الوضع والمبادرة بالحلّ. وهذه الخصائص تستوجب مدرسة تتّجه أكثر فاكثر إلى تكوين يقطع مع التكوين التراكمي القديم ليبنى على تكوين كفاءات توظّف المعارف لتنمية المهارات « 3 إنّ هذا القول وغيره يبرهن على أنّ المشروع الجديد للتربية والتعليم لم يكن نابعا من مرجعية تونسية بل إنّ مهندسيه الحقيقيين هم أسياد العصر الجديد من الشركات العابرة للقوميات وضغط رأس المال العالمي عبر مختلف مؤسساته على الحكومات كي تجعل النظام التعليمي ملائما لمصالحه وبما أنّ هذه المؤسسات ألحقت بلدان الجنوب بالعولمة الليبرالية عبر اتفاقيات الشراكة والتبادل الحرّ والاتفاق العام حول التجارة والخدمات... فإنّ مراجعة السياسة التعليمية تندرج في نفس الإطار خاصة وأنّ تونس لم تنفرد بذلك وإنّما هي شاملة لمختلف البلدان جنوبا وشمالا.
وهكذا فإنّ لبّ هذا المشروع لا يعدو أن يكون سوى ترجمة تونسية لمشروع العولمة الليبرالية وحين نقرأ ما جاء في بيانات المؤسسات الدولية وتصريحات بعض منظّريها فإنّنا نجد الجميع يردّد معزوفة واحدة بلغات مختلفة من ذلك :
ما جاء في البيان الختامي لمجموعة السبعة الأغنياء الصادر عن لقاء جنوة (جويلية 2000): » نعبّر عن تعلّقنا بضرورة توفير تعليم ابتدائي للجميع من الآن إلى 2015" ويضيف هذا البيان مجيبا ضمنيا عن سبل تحقيق ذلك قائلا : " إنّنا نشجّع بالخصوص القطاع الخاص على فرص الاستثمار الجديدة في مجال البنية التحتية والتكنولوجيا الجديـدة ووسائــــل التعلمات «.
ما أعلنت عنه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بصراحة ودون التباس أو تعقيد للأمور من أنّ » التعليم هو صناعة اليد العاملة بامتياز « وهي بذلك تمتدح السعي إلى النجاعة والمردودية القصوى في هذه الصناعة كغيرها من الصناعات فتضيف » إنّها -صناعة- تساعد أيضا على توفير نجاعة أفضل وتصرّف أحسن في الموارد الحقيقيّة والماليّة. وهي ضرورة غدت اليوم ملحّة في قطاع التعليم« (التقرير الأول ص 154-155).
أمّا بالنسبة إلى برناردت ورومانفيل – أحد منظّري المقاربة بالكفايات – فيقولان : »إنّ الجميع ينتظر من المدرسة أن تستجيب لانتظارات الشباب والعالم الاقتصادي«.
وأخيرا، لقد شكّل سكرتير منظمة التجارة العالمية أثناء قمّة سياتل 1999 فريق عمل مكلّف بدراسة آفاق تحرير مكثّف للتعليم وأورد في تقريره الأوّل » نحيّ الحكومات التي تجاوزت جعل التعليم يموّل تمويلا عموميا خصوصا واقتربت من السوق بانفتاحها على آليات تمويل جديدة «.4
لا مجال للشكّ بعد ذلك أنّ الحكومة التونسية بإطلاقها لهذا المشروع المؤطّر للنظام التعليمي في بلادنا تخضع لتوجيهات رأس المال على حساب أغلبية السكان الذين هم في حاجة إلى مثل هذه الخدمة الاجتماعية ولهم كلّ الحقّ في تعليم يستجيب لطموحاتهم تصوّرا ومحتوى وتكلفة. ولذلك فإنّه لا بدّ لنا من الوقوف على حقيقة مقاصد "الرهانات" التي يراهن عليها مشروع مدرسة الغد بتفكيك الخطاب والاحتراز من ازدواجيته لنتبيّن أنّ أسلوبه المشحون بالعبارات الإنسانية والمقاصد النبيلة يخفى "غدا" ليس كذلك تماما.
يقولون لنا : " تكوين عقول مفكّرة بدل حشو الأدمغة ..."
وهو قول يؤكّد على ضرورة اتّباع مقاربة منهجية وبيداغوجية جديدة في التعليم، فهل يعني ذلك أنّا نعادي تكوين العقول المفكّرة أو اكتساب المتعلمين الكفاءة والمهارة؟!
حتما لا. ولكن حين نقرأ لجون ماري دي كاتلي DEKETELE »بالفعل إنّ العالم الاجتماعي والاقتصادي هو الذي حددّ مفهوم الكفاية لأنّ الكهول الذين كوّنتهم المدرسة لم يكونوا أكفّاء بالقدر الكافي عند دخولهم الحياة المهنية.« (بيداغوجيا الإدماج دي كاتلي وآخرون-2000)5 ندرك أنّ هذه المقاربة ذات صلة وثيقة بالاقتصاد المعولم الذي يخضع كلّ شيء للكفاءة الاقتصادية بحثا عن الربح الأوفر مانعا بذلك كلّ توجّه نحو التخطيط لتلبية الاحتياجات الاجتماعية وجاعلا من الكفاءة /المهارة الوسيلة الوحيدة في تنظيم نشاطه. نضيف إلى ذلك هشاشة العمل اليوم (المرونة، العمل الوقتي، تغيير نوع العمل أو موقع العامل فيه الخ) الذي يستوجب من العمال قدرة كبيرة على التلاؤم أو اكتساب مهارات محدّدة فتكون النتيجة تبعا لذلك التدخّل المباشر لرأس المال في التعليم وتوجيهه وفق مصالحه.
إنّ ما ألهب سعير رأس المال في هجومه على التعليم العمومي ليس إخضاعه إلى متطلباته وتكييفه وفق مصالحه الخاصة فقط بل لأنّ التعليم نفسه سوق يغري بالأرباح الوفيرة سواء باقتحام مجال التعليم الخاص أو الاستثمار في مجال التعليم "العمومي" (الإشهار، بيع الوسائل التعليمية، التربصات، المطاعم والمبيتات، التعليم عن بعد...) وهو هجوم يكتسح اليوم العالم بأسره خاصّة وأنّ نفقات التعليم في العالم تقدر ب 2000مليار دولار سنويا (ضعف سوق السيارات) كما أنّ التعليم على امتداد الحياة يسهم كذلك في نموّ سوق خدمات التعليم. (التعليم مدى الحياة)
في ضوء التحليل السابق نتبيّن أنّ المقاصد الأساسية للمقاربة بالكفايات لم تكن- مع الأسف- اختيارا ناشئا عن بحوث علمية وبيداغوجية مستقلّة وإنّما هي مقاربة بدأ رأس المال ضغطه من أجل اعتمادها تعبيرا عن إرادته في تحقيق الملائمة بين اليد العاملة وعالم العمل. ولعلّ الدليل الذي يدعم رأينا هذا في ما يخصّ بلادنا على الأقلّ أنّها لم تصدر عن مراكز بيداغوجية ولا عن لجان واسعة وممثّلة لمختلف الأطراف بقدر ما كانت مسقطة من فوق على المدرّسين وكلّ من لهم صلة بالشأن التربوي في مختلف مستويات التعليم وذلك بعد عقد وزارة التربية عددا من حلقات التكوين المغلقة والتي لا نعلم عنها شيئا والتي استدعت لها الخبراء البلجيكيين والكنديين وغيـــــــــرهم (سلسلة الحلقات التكوينية بقرطاج 1999-2000).
هناك إذن توافق واضح بين الخطاب البيداغوجي والخطاب الاقتصادي الليبرالي، فالحديث في مقاربة الكفايات عن اكتساب المتعلمين لكفايات تؤهلهم للقدرة على حل مشكل معين في وضعية معينة والقدرة على التأقلم مع مختلف الوضعيات واستنباط حلول لها لا يعدو أن يكون في الحقيقية سوى تحديد دقيق للشروط المطلوبة في الأجراء حتّى يقدروا على التكيّف مع مختلف الوضعيات الجديدة التي يسببها التطوّر السريع والمستمرّ وغير المتوقّع للاقتصاد المعولم والتطور التكنولوجي. ذلك هو الدور الذي أصبح منوطا بعهدة المدرسة متخلّية بذلك عن الاهتمام بالمعارف في حدّ ذاتها أو تاريخها أو المقارنة بين " العصور المعرفية" ونقدها الخ ... ومركّزة على كيفية الوصول إلى المعلومة في ظلّ التدفّق السريع للمعلومات في عالم اليوم. وبعبارة أخرى يمكننا القول إنّ المدرسة اليوم باعتمادها هذه المقاربة تجعل المنهج كلّ شيء والمعرفة لا شيء، إنّها دوغمائية تريد من الجميع أن يطأطئ الرأس أمام الحقيقة الليبرالية القائلة »أنّ كلّ شيء يجب أن يكون في خدمة الاقتصاد وليست هي برغبة في التجديد البيداغوجي كما يروّج لذلك «6. إنّه موقف نقرأه حتّى في كتابات أبرز الكتّاب المتحمّسين لمسألة الكفايات الأساسية إذ يقول برينو perrenoud : » يجب على التلميذ أن يكون كفئا على تحفيز مختلف مكتسباته المدرسية خارج المدرسة وذلك في وضعيات متنوعة ومعقّدة وغير منتظرة«.7
وهكذا ورغم أهميّة الكفايات المكتسبة في التعليم لو كانت مجرّد مقاربة بيداغوجية غير خاضعة لتأثير النيوليبرالية فإنّه كان عليهم أن يقولوا لنا الكفايات الأساسية : المدرسة في خدمة رأس المال بدلا عن »تكوين عقول مفكّرة بدل حشو الأدمغة «.
يقولون لنا : » التحكّم في التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصال...«:
نودّ في البداية أن نشير إلى أنّ التطوّر السريع لهذه التكنولوجيات في مجال الاتصال هو من أبرز إنجازات الإنسانية في نهاية القرن العشرين. ولا نشكّ في أنّ هذه التكنولوجيات هي أبرز أداة للرأس المال في عصر العولمة الليبرالية إذ أصبحت تكنولوجيا المعلوماتية وسيلة إنتاج وسوقا في نفس الوقت فاكتسحت مختلف القطاعات بما فيها التعليم.
وإن كنّا لا نستغرب دخول هذه التكنولوجيا الحديثة عالم المدرسة فإنّه يعنينا أن نعرف حقيقة الأغراض المقصودة من ذلك خاصّة وأنّ مختلف التشريعات التي هي موضوع بحثنا تعتبرها من "الرهانات" الأساسية المطروحة على "مدرسة الغد" بغية بعث المدرسة الافتراضية e-learning. فهل هي مجرّد أدوات لتحقيق التعلّمات أم أريد منها إلى جانب ذلك تحقيق أغراض أخرى؟
نتبيّن مرّة أخرى أنّ هذا المشروع ليس بعيدا هو الآخر عن تأثير مختلف المؤسسات المالية الدولية والشركات العابرة للقوميات التي هي اليوم بمثابة الحكومة الليبرالية المتحكّمة في العالم بأسره والتي تزعم أنّه لا مناص من تنفيذ قراراتها.
إنّ المدرسة الافتراضية هي توصية أكدت هذه المؤسسات واللجنة الأوروبية على بداية تطبيقها في مختلف بلدان العالم. وهي فيما يخصّنا –وكسائر بلدان الجنوب- تعتبر مراجعة للسياسة التعليمية على نحو تكون فيه متلائمة مع السياسة الاقتصادية التي أخضعنا إليها منذ ما يربو عن العشريتين الأخيرتين فهي إذن مدرسة غايتها توحيد المنوال التعليمي في العالم بأسره فيكون محتواها المنشور على الشبكة المعلوماتية (البرامج، انتداب الأساتذة الساهرين على تحيينها، برامج التصفّح والتحميل،...) سوقا مربحة من وجوه عديدة :
* من حيث هي سلعة متجدّدة لا تعرف النفاذ ولا حدود جغرافية أو جمركية أمام ترويجها فتكون المدرسة سوقا عالمية للشركات العملاقة المنتجة لهذه التكنولوجيا.
* ومن حيث هي تتيح للشركات العابرة للقوميات توفير اليد العاملة المكتسبة للكفاية الأساسية التي بها تحقّق أهدافها.
* ومن حيث قدرة إطارات هذه الشركات وأعوانها على سرعة تغيير استراتيجياتهم إزاء أسواق المال أو مشاريع الاستثمار وكذلك قدرة استشارتهم للخبراء وهم في أطراف قصيّة من الأرض ولا يتمّ كلّ ذلك طبعا إلاّ " بالتحكّم في تكنولوجيا الجديدة للمعلومات والاتصال".
يصرّح كارلوس اوليفيرا، أحد مسؤولي اللجنة الأوروبية » إنّ هدفنا في الإدارة العامة لمجتمع الإعلام هو أن نجعل المدرسة الافتراضية e-learning أمرا متاحا للجميع ولكن خاصة للشباب كي يتمكنوا بواسطتها إيجاد المعالم والمفاتيح في اقتصاد عالم اليوم« إنّ مثل هذا الكلام يعلن بوضوح أنّ القصد ليس الازدهار الاجتماعي لهؤلاء الشباب أو التبادل الثقافي بين شعوب مختلف القارات ولكن الهام بالنسبة إلي اللجنة الأوروبية والعاملين بتوصياتها إنّما هو أن يكون النظام التعليمي مشتغلا بواسطة السوق ولفائدته وان تكون له النجاعة والمردودية اللازمتين في أقرب الآجال. وعندما نريد أن نتأكد أكثر أنّ ما يبرمج لمدرسة الغد الافتراضية ما هو إلاّ فتح للمجال أمام الشركات العملاقة لإنتاج النظم والبرامج الإلكترونية لاكتساح سوق جديدة فإنه لا يفوتنا التذكير بانّ كلام اوليفرا هذا قد قيل أثناء الاحتفال بمرور عشرين سنة على ميلاد شركة SUN Microsystems " التي اشتدّ عودها عند بلوغها مثل هذه السنّ فأعلنت نائبة رئيسها كيم جونس أنّ »هدفنا هو اقتحام سوق التعليم في المدرسة وخارجها«8
إنّ المشكل الأساسي إذن ليس في تطوّر تكنولوجيا المعلومات والاتصال في حدّ ذاتها بل في كيفيّة توظيفها مدرسيا ذلك هو جوهر الخلاف بين الرؤية الليبرالية والرؤية الاجتماعية. فالأولى تجعل هذه التكنولوجيا أداة لاكتساح مختلف الأسواق بما فيها سوق التعليم أمّا الثانية فهي تريد منها أن تكون أداة في خدمة المعرفة وتيسير تحصيلها وتحقيق الازدهار الاجتماعي والتبادل الثقافي بين مختلف مواطني القارات وشعوبها.
هناك مسألة أخرى يتمّ التأكيد عليها في مشروع "مدرسة الغد" وهي أنّ التحكّم في تكنولوجيا الاتصال تتيح للجميع التعلّم مدى الحياة وهو كغيره من " الرهانات " التي هي أبعد ما تكون عن ذلك الهدف الإنساني المتمثّل في جعل التعلّم والمعارف أمرا متاحا للجميع حتّى خارج المؤسسة التعليمية أو يمكّن من تجديد المعارف وتطويرها باستمرار. وحتّى وإن لم ينف هذا الرهان ذلك فإنّنا نرى أنّه لا يقف عند هذا الحدّ بل إنّه انطلق من هذا الهدف الإنساني ليجعله مدخلا لإعفاء رأس المال من أعباء التكوين المستمرّ ومختلف التدريبات الضرورية للعمّال التي تكون في الكثير من الأحيان باهظة التكاليف. وهكذا يصبح التعلّم مدى الحياة إعفاء المؤسسات الاقتصادية الخاصّة من تكلفة التكوين ومساعدتها على تحقيق أرباح أوفر من جهة وعبئا جديدا على العمال من جهة ثانية.
لقد كان عليهم أن يتممّوا القول بأنّ التحكّم في التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والاتصال هدفه أن تكون المدرسة أداة تسرّع نسق إدراج البلاد في اقتصاد رأسمالي معولم وخدمة أخرى من الخدمات المقدّمة لرأس المال حتّى يضمن النجاعة المطلوبة والربح الأوفر.
يقولون لنا : " التفاعل الإيجابي مع المحيط..."
وهو رهان آخر من الرهانات التي ركّزت عليها تشريعات مشروع مدرسة الغد إذ ورد في المشروع الذي يرسم ملامحها » إنّ تطوير دور المؤسسة التربوية .. يقتضي اعتماد مشروع المؤسسة في صيغة عقد بين مختلف الأطراف« 9 وجاء في الفصل 15 من القانون التوجيهي (2002) : » تعمل الدولة على النهوض بالتربية قبل المدرسية في إطار التكامل بين التعليم العمومي ومبادرات الجماعات المحلّية والجمعيات والقطاع الخاص« كما تنصّ العديد من فصول هذا القانون (34و35و36) على الدور الهامّ لأطراف أخرى في تمويل التعليم كالجمعيات والمنح والهبات والخواص. يرد كلّ ذلك معلّلا بأنّ مدرسة اليوم لا بدّ لها أن تتجاوز التعقيدات البيروقراطية الناجمة عن التسيير المركزي وأن تمنح استقلاليتها فتكون على نحو ملائم لبيئتها كما يعلّل ذلك أيضا بالقول إنّ المدرسة مؤسسة اجتماعية فمن غير المجدي أن تبقى منغلقة على ذاتها.
إنّها مبرّرات لم تعد تخفي الهدف الحقيقي من جعل »المدرسة منفتحة على محيطها« فالمقصود بذلك أساسا هو المحيط الاقتصادي الذي غدا يتحكّم فيه الرأسمال العالمي فيكون الرهان الحقيقي فتح المدرسة أمام القطاع الخاصّ سواء في شكل شراكة أحيانا أو انفرادها كليا بهذا القطاع أحيانا أخرى، وهو أمر أكّد علية البنك العالمي في إطار الوصفة المقدّمة لبلدان الجنوب لتجاوز أزماتها الاقتصادية فعوض أن يلغي ديون هذه البلدان واستثمار الأموال العمومية المحرّرة في قطاع التعليم دعا إلى تشجيع الالتجاء إلى القطاع الخاصّ سواء لتمويل مؤسسات التعليم الخاص أو أن يكون متمّما لنفقـات مؤسســـات الدولة« 10
وهكذا تكون وظيفة المدرسة مرة أخرى تأهيل اليد العاملة التي تستوجبها هذه المؤسسات أو أن تكون سوقا لها. كما أنّ التعاون بين المدرسة والقطاع الخاص يجعل من التعلّمات تركّز على إعداد المتعلمين لإدماجهم في اقتصاد معولم ويصبح المشغل الرئيسي للمدرّس اتباع هذا الأفق الجديد للمدرسة باعتبار أنّه يتعامل مع شركاء وبالتالي التركيز على التطبيقات التي من شأنها أن تحفّز المتعلّم وتمنحه أفقا مهنيا جيّدا ملائما لحاجيات مؤسسات الشراكة مع المدرسة.
هكذا إذن تبدو مقولة انفتاح المدرسة على محيطها إخضاع المؤسسة التعليمية إلى ما يعبّر عنه بـ"روح المؤسسة" أي جعل المدرسة كالمؤسسة الاقتصادية تقوم على المرونة والنجاعة ولا حظّ فيها إلا للذي اكتسب الكفاءة اللازمة التي يتطلبها سوق الشغل وهو أمر لا يعنى شيئا في نهاية المطاف سوى بلوغ الاغتراب درجته القصوى بما أنّ المدرسة لم تعد معنية بتخريج ذوات حرّة متسلّحة بالمعارف المختلفة ومتملّكة لمصيرها بل معنية فقط بتخريج "آلات" قادرة على التأقلم مع وضعيات الإنتاج المختلفة وهو درجة قصوى من الاغتراب لأنّه تجاوز مجال العمل ليشمل من هو في طور الإعداد له. تلك هي خصائص" مدرسة الغد" وبما أنّه لا بدّ للغد من ليل يفضي إليه فإنّ الظلام بدأ يكتسح مدرسة اليوم التي أعلنت الليبرالية بعد عن بداية خوصصتها وتهيئتها لهذا الغد بضبط ملامحها بدقة.
إنّ هذا "الرهان" وهو يؤكّد على أهميّة دور الخواص لم يغفل التأكيد على نقاوة هذا المحيط إذ اقتصر فيما يتعلّق بالأطراف الأخرى المكوّنة لهذا المحيط على »الجماعات المحليّة« و »الجمعيات ذات العلاقة بالشأن التربوي« إنّه إقصاء واضح لكلّ هيئات المجتمع المدني المستقلة من نقابات وجمعيات وغيرها وانفراد للسلطة السياسية بالمدرسة مادام تعنّتها في رفض الديموقراطية الحقيقية في المجتمع مازال متواصلا فالأمر يتعلّق باعتداء سافر على ديموقراطية التعليم لأنّه يعمّق الثنائية الاجتماعية في المدرسة كما هو حاصل في المجتمع وذلك عبر ارتفاع كلفة التعليم وتهميش المدرسة العمومية تمهيدا للتدخّل الواسع للقطاع الخاصّ وهي مسألة غدت معروفة لدى سائر المواطنين (اللّهاث وراء الدروس الخصوصية وترسيم الأثرياء بناتهم وأبناءهم في مدارس وجامعات خاصة) وهي معروفة كذلك لأنّ الحكومة، بتواطؤ مع الرأسمال العالمي، اعتمدت نفس الخطّة فيما يتعلّق بخوصصة المؤسسات العمومية الصناعية والمالية والخدماتية... وهو اعتداء على ديموقراطية التعليم أيضا لأنّه يقصي كلّ القوى الديموقراطية والمستقلة عن الفضاء المدرسي وقد شرع بعد في مزيد عرقلة العمل النقابي ومنعه في حين تفتح الأبواب واسعة أمام منظمات الحزب الحاكم (الشعب المهنية، الشبيبة المدرسية والتربية والأسرة...)
هناك مسألة أخرى هامّة تتعلّق بدور الدولة وهي أنّ المناهضين لـ "مشروع الإصلاح المدرسي" كثيرا ما يستندون في رفضه إلى تخلّي الدولة عن تمويل التعليم بتسليعه وهو أمر صحيح لكنّهم كثيرا ما يغفلون أنّ مدرسة الغد كما ينظّر لها هي أيضا مدرسة تتدخّل فيها الدولة بقوّة فيما يخص ضبط أهداف التعليم (أو ليست الدولة نفسها هي التي تبادر بهذه الإصلاحات بضغط من عالم رأس المال). لاشك أنّ الدولة تحتفظ بوظيفة هامة للتعليم تجعل منه جهازا إيديولوجيا يعيد باستمرار إنتاج الثقافة السائدة ويغلق المنافذ أمام كل تدخل للمجتمع المدني المسقلّ الساعي إلى جعل المدرسة فضاء للحرية والتغيير . فالدولة حاضرة بقوة في هذا الجانب وهو ما بيّنه بيير بورديو حين أشار إلى »أنّ المدرسة تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي« (كتابه حول النظام التعليمي "إعادة الإنتاج").
إنّ دور الدولة في مجال التعليم أصبح يقتصر على ضمان المرور من التعليم العمومي للجميع إلى تعايش نمطين من المؤسسات التعليمية : التعليم الخاص بقدراته المالية الهائلة وبرامجه الحرّة والتعليم العمومي للفقراء والذي أصبحت اعتماداته المالية تتناقص على نحو كبير يوما بعد آخر (الضغط على مصاريف القطاعات غير المنتجة إجراء أكّدت عليه وصفات التعديل الهيكلي).
وهكذا يتم ضرب مبدأ ديموقراطية التعليم في الصميم فهو لم يعد حقّا اجتماعيا يتساوى فيه الجميع وبطبيعة الحال فإنّ الدولة سوف تضفي على تنصلها من هذه الخدمة (وغيرها) قناعا إنسانيا يتمثل في الدعاية لمبدإ التضامن وجمع التبرعات لفائدة أبناء الأسر ذات الدخل المحدود.
لقد كان عليهم أن يحدّدوا هذا المحيط بدقّة بالقول إنّ المقصود به هو المحيط الاقتصادي في عصر الحريّة الاقتصادية والمحيط السياسي والثقافي في عصر الدكتاتورية.
هذه بعض الأفكار والآراء التي استخلصناها من مشروع مدرسة الغد والتي لا نزعم صحّتها المطلقة وإنّما قد تبدو هي الأخرى بحاجة إلى النقد والنقاش والتعديل. هي أفكار ترفض أن يكون الرهان الأساسي المطروح على المدرسة التونسية الذي أعلنت عنه الحكومة والمتمثّل في ملاءمتها للاقتصاد الرأسمالي المعولم أو التطبيق الحرفيّ لوصفات أصدرتها مختلف مؤسساته. إنّنا لا نريد لمدرستنا أن تكون تلميذا نجيبا لهذه المؤسسات! بل نرى أنّ الرهان المطروح على كلّ من له علاقة بالمدرسة هو أن يتحوّل التذمّر من وضع النظام الحالي للتعليم وتحويل أصوات الغضب لدى التلاميذ والمدرسين والأولياء المشتتة والمفتقرة إلى الوضوح و إلى حركة توحّد النضالات متسلّحة بالمعرفة وتخوض عملا دؤوبا يبدأ بالنقاش الديموقراطي الواسع لينتهي بخوض المقاومة في سبيل وضع تصوّر بديل للمدرسة وأن ترسم آفاقا غير ليبرالية لمدرسة الغد. على هؤلاء جميعا أن يشرعوا توّا في المقاومة من أجل مدرسة جديدة فيها حظّ للجميع فعلا وتكون في خدمة المجتمع تمويلا وتسييرا وبرامج. ونرى أنّه على هذه المقاومة أن تبدأ بالنضال من أجل توفير الوقت اللازم والظروف الماديّة والسياسية الملائمة لهؤلاء حتى يدفعوا عنهم الاغتراب ويتحوّلوا إلى مواطنين وجماعات حرّة تحدّد مصيرها ومصير الأجيال القادمة بنفسها.
مختار بن حفصة
نقابي وعضو راد أتاك تونس
نوفمبر 2002

1 مدرسة الغد، مدرسة للجميع فيها حظّ- 2000 - القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي جويلية 2002- الخطّة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007 الصادر في سبتمبر 2002.
2مدرسة الغد، للجميع فيها حظّ- ص 6
3 مدرسة الغد، مدرسة للجميع فيها حظّ- ص 13
4 راجع مختلف النصوص المنشورة في موقع جمعيّة " النداء من أجل مدرسة ديموقراطية " : http://users.skynet.be/aped
5 السبيل إلى المقاربة بالكفايات – عبد العزيز الكردي . مطبعة تونس قرطاج 2002
6 المحاور الثلاثة لتسليع التعليم- نيكو هيرت. جمعية النداء من أجل مدرسة ديموقراطية.
7 فلييب برينو : المقاربة بالكفايات، هل هي جواب عن الإخفاق المدرسي؟ (منشور بموقع جمعية النداء من اجل مدرسة ديموقراطية).

8Jean-Marc BOCCACCI - L’elearning à l’assaut de l’enseignement

9- مدرسة الغد، مدرسة للجميع فيا حظّ – 2000-
10 هاري انتوني باترينوس . البنك العالمي-2000-

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire