jeudi 17 mars 2011

حتّى لا يعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة!


حتّى لا يعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة!
كان نظام الباي قد أجهض ثورة عليّ بن غذاهم التي انتشرت بسرعة في مختلف المناطق في ربيع 1864.وكانت دوافع تلك الثورة اقتصادية واجتماعية بالأساس حيث أعلن السكان عن رفضهم للجباية التي أثقلت كاهلهم. وقد قاد خزندار والجنرال زروق عسكر زواوة وسحقوا ربيع تونس في تلك السنة. لقد وجدت البلاد التونسية نفسها بعد سحق هذه الثورة في أزمة ماليّة خانقة سنة 1869 عجزت فيها سلطة الباي عن تسديد الديون الخارجية للملكة فلم تتردّد الدول الاستعمارية الغنيّة (فرنسا، بريطانيا وإيطاليا) في التدخّل خوفا على أموالها ومن اشتعال ثورة جديدة قد تعصف بكلّ استراتيجيتها الاستعمارية .وتمثّل ذلك التدخّل في تشكيل الكومسيون المالي الذي تشكّل من الدائنين الأغنياء الثلاثة وممّثّل عن الإيالة التونسية (خير الدين باشا ثمّ مصطفى بن اسماعيل) ومثّل الكومسيون تدخّلا أجنبيا مباشرا تولّى تصريف الشؤون المالية للبلاد فاستخلص الديون وجرّد الباي من كلّ سلطة فعلية على اقتصاد البلاد ونظامها المالي.
بعد ذلك بسنوات قليلة أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية والاستعمار مباشر...
وبعد سنة 1956 بـأكثر من نصف قرن نجحت ثورة جانفي 2011 في التخلّص من حكم ديكتاتوري جعل اقتصاد البلاد خاضعا لتوصيات الدول الغنيّة والمؤسسات المالية عبر تبنّي برنامج التكييف الهيكلي (1986) واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي (1995) وعقد عشرات الاتفاقيات لحماية الاستثمار..الخ
إنّ تلك السياسات جعلت طاقة الاقتصاد التونسي موظّفة للتصدير للحصول على العملة الصعبة الضامنة لتسديد الديون وذلك عملا بتوصيات المؤسسات المالية الدولية وبرامجها. إنّ الأمر لا يختلف كثيرا عمّا كانت عليه البلاد قبيل الحماية لذلك ليس من المغالاة في شيء أن نصف السياسة الاقتصادية التي اتبعها نظام الديكتاتور بأنّها خضوع تامّ للإملاءات الأجنبية حتى أنّ الدائنين لم يبخلوا عليه بشهادات الاستحسان ولقب التلميذ النجيب (راجع تصريحات شيراك وساركوزي وبرلسكوني ودومنيك شتروس كان.رئيس صندوق النقد الدولي..).
إنّنا نعتقد أن الكلفة الاجتماعية الباهظة لتلك السياسة هي التي جعلت من الشعب التونسي يعلن ثورته على ابن علي بعد ان اكتوى بها لأكثر من عقديْن. فالثورة التونسية في منطلقها كانت اجتماعية بالأساس ثمّ ارتبط فيها الشعار الاجتماعي بالمطلب الديمقراطي. غير انّ النخبة السياسية بعد الثورة نادرا ما وضعت النظام الاقتصادي السائد موضع تساؤل في حين انصرف الجميع إلى الاهتمام بالمطالب الديمقراطية والحرية السياسية. كما تميّز المشهد العام السائد بعد هذه الثورة بأحداث مشابهة لما شهدته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تواترت على البلاد وفود عديدة ممثّلة لحكومات الدائنين ومؤسساتهم. وإذا ما عدنا إلى تصريحاتهم الصحفية ومشاعرهم المعلنة نجدهم يردّدون مساندتهم للثورة وفرحهم بانتصار إرادة الشعب على الديكتاتور ولكن لا أحد منهم اعتذر للشعب التونسي عن مساندة ذلك الديكتاتور الذي لم يبخلوا عليه بديون ثقيلة سدّد فاتورتها الشعب التونسي. واللافت أيضا في تصريحاتهم، بعد ديباجة الإعجاب والمساندة، أنّهم عبّروا عن قدومهم لمساعدة تونس ماليا في هذا الظرف الاستثنائي. والمساعدة المالية في هذا السياق تعني تقديم قروض جديدة. وقد عبّر عن ذلك نائب رئيس البنك الأوروبي للاستثمار وايطاليا وفرنسا والمفوضية الأوروبية..
إنّ هؤلاء" الضيوف" المُريبين لا يختلفون كثيرا عن أعضاء الكومسيون المالي فقد جاؤوا لضمان خلاص ديونهم ولإغراق البلاد في ديون جديدة وضمان عدم قطع الثورة التونسية مع النظام الاقتصادي السائد الذي يضمن لهم ترحيل ثروات الشعب التونسي ومراكمة الأرباح (حصيلة التحويل الصافي بالنسبة إلى الديون التونسية بلغت 6580 ـــ مليون دينار طيلة حكم ابن علي). وقد استجابت السلطات التونسية الوقتيّة لتلك الغاية دون ادنى معارضة فمحافظ البنك المركزي أعلن عن ذلك صراحة باكرا إذ صرّح يوم 21 جانفي 2011 ان تونس ستسدّد 1120 مليون دينار على قسطين (800 م.د في شهر أفريل والباقي في سبتمبر) أمّا خطاب الحكومة فكثيرا ما يركّز على إعادة الثقة إلى المستثمرين الأجانب والدائنين رغم أنّ وكالات التصنيف الخاصة بالديون خفّضت من العدد الممنوح لتونس بعد الثورة..
إنّ إفراط نظام المخلوع في قمع الشعب التونسي عائد في نظرنا إلى ضمان استمرار هذه السياسة الاقتصادية القائمة على التبعية والخضوع وضرب السيادة الشعبية واستقلال القرار.ومادام الشعب التونسي قد نجح في طرد مَن صادر سيادته فإنّ نجاح ثورته يستوجب صدّ اللصوص المحليين ومحاسبتهم وإعادة النظر في العلاقة مع الدائنين من الدول الغنية ومختلف المؤسسات المالية بدءا بتعليق تسديد الديون الخارجية حتّى يتمّ توظيف مبالغها الطائلة في تحقيق بعض ما اندلعت من أجله الثورة وفرز الديون المريبة عبر تشكيل لجنة تحقيق مواطنية واستعادة السيادة الوطنية والشعبية فيما يخص التداين والسياسة المالية والاقتصادية. ألم يقل الدائنون إنّهم يساندون الثورة التونسية؟ أليس إلغاء الديون مظهرا من مظاهر تلك المساعدة خصوصا وأنّه لن يضرّهم بالقدر الذي سيتضرّر منه الشعب التونسي في صورة مواصلة التسديد؟
وحتّى لا يكون مآل الثورة التونسية نفس المآل الذي آلت إليه البلاد بعد ثورة 1864 يجب ان يكون النظام المالي والاقتصادي في صدارة جدول أعمال كلّ مَن يريد لهذه الثورة أن تحقّق أهدافها : التشغيل والعدل الاجتماعي والكرامة والسيادة الشعبية.
إنّهم يريدون إعادة التاريخ في شكل مهزلة
لكنّنا نريد الاستفادة من درس التاريخ
مختار بن حفصة
17 مارس 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire