lundi 14 mars 2011

الحجج الداعمة لمطلب إلغاء الديون

أطلقت جمعية رَادْ يوم 22 فيفري 2011 حملة لتعليق تسديد الديــون الخارجيّـــة(1). ولقد حظيت هذه المبادرة بمساندة وتفاعل كبيرين محليا وعالميا إذ انخرطت فيها مجموعة التفكير حول الديون الخارجية لتونس(2) والشبكة الدولية للجنة إلغاء ديون العالم الثالث(3) وعديد المنظمات والمناضلات والمناضلين الآخرين.(4)
ورغم هذا الزخم الذي لقيته المبادرة يحتاج الأمر في نظرنا إلى دعمها والإقناع بوجاهتها ومشروعيتها ببيان مختلف الحجج والأدلّة الداعمة لمطلب إلغاء هذه الديون وفيما يلي عرض موجز لمختلف تلك الحجج والأسس.
  1. الحجج الأخلاقية :
. مثّل نظام التداين تاريخيا، نهبا لمقدّرات الشعب التونسي منذ الكومسيون المالي في نهاية القرن التاسع عشر وإعلان الحماية إلى حدود اليوم. لذلك يعتبر تسديد الديون أحد أبرز العوائق الهامة أمام تحقيق تنمية عادلة تلبّي مختلف الحاجيات الضرورية (الشغل، التعليم، الصحة..). وإذا ما قارنّا بين حجم المبالغ التي تمّ تسديدها بعنوان خدمة الديون وما يتطلّبه تحقيق مختلف تلك الحاجيات من جهة وحقوق الدائنين في استعادة رؤوس أموالهم وفوائدها من جهة ثانية يتبيّن لنا، على الصعيد الأخلاقي أنّ وزن تلك الحاجيات والمبالغ أكبر بكثير ممّا يطالب به الدائنون. واستنادا إلى ذلك لا يمكن اعتبار مطلب الإلغاء مطلبا مخالفا للقيم الاخلاقية، بل العكس هو الصحيح، إذ من غير المقبول أخلاقيا أن تخصّص العائدات المالية الضئيلة للمحتاج لخلاص دائنين يزدادون ثراءً.
إنّ الدائنين يفرضون مفهومهم للأخلاق والحقّ مستندين إلى أنّه من المعيب أخلاقيا عدم خلاص الديون فكانوا بذلك الخصم والحكم في الآن نفسه. وفي الحقيقة فإنّ هؤلاء الدائنين لن يتضرّروا في صورة ما إذا تمذ الإلغاء ولكنّه من المؤكّد أن الشعب التونسي سيزداد تضرّرا في صورة خلاص الديون. وقد عبّر محافظ البنك المركزي عن التزام الدولة التونسية بتعهّداتها المالية المتمثّلة في تسديد الديون الخارجية(800 مليون دينار في شهر أفريل القادم والباقي في شهر سبتمبر). إنّه قرار غير شرعي من طرف محافظ البنك المركزي والحكومة المؤقتة باعتباره يفتقد إلى مشروعية اتّخاذ قرار مصيري كهذا باسم الشعب التونسي..
هناك حجّة اخلاقية أخرى داعمة لمبدإ الإلغاء وهو أنّ الدائنين على علم أنّهم كانوا طيلة 23 سنة يقرضون ديكتاتورية ونظاما استبداديا فاسدا، وأنّ ابن علي وحكومته لم يوظّفا قسطا كبيرا من مبالغ الديون لفائدة الشعب التونسي فمن غير المقبول أخلاقيا أن نطالب الشعب التونسي أن يسدّد تلك الديون والحال أنّه لم يستفد منها.
إنّ الضغط من أجل تسديد هذه الديون لا يمكن اعتباره إلاّ إجراء غير مقبول أخلاقيا من طرف الدائنين الأغنياء وهو إجراء ينضاف إلى سجلّ تاريخهم الأسود المتمثّل في العبودية ونهب مقدّرات الشعوب الفقيرة باستعمارها استعمارا مباشرا أو غير مباشر إضافة إلى بناء أسوارقانونية وأمنيّة تقطع الطريق أمام المهاجرين نحو الشمال والباحثين عن لقمة العيش..
  1. الحجج السياسية
لا شكّ أنّ تبنّي سلطة ابن علي لسياسة التكييف الهيكلي والانخراط في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي جعل الشعب التونسي واقعا تحت نير ديكتاتوريتين : ديكتاتورية ابن على وديكتاتورية مؤسسات العولمة النيوليبرالية.
إنّ انخراط حكومة ابن علي في منظومة العولمة النيوليبرالية منذ استيلائه على السلطة سنة 1987 جعل من حكومته خاضعة بمرور الأيام إلى توصيات الدائنين واستراتيجياتهم وهو ما مثّل ضربا واضحا لمبدإ السيادة وعائقا رئيسيا أمام الشعب التونسي لاختيار حكومته ديمقراطيا وبناء استراتيجيته الاقتصادية والاجتماعية بكل استقلال وسيادة.
إنّ الشعب التونسي لا يجد صعوبة كبيرة في معرفة الارتباط العضوي بين ديكتاتورية ابن علي وعواصم البلدان الغنية والمؤسسات المالية الدولية. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الديون التي أبرمها ابن علي مع تلك العواصم والمؤسسات كانت قرارا أحاديا ولم يستشر فيها الشعب التونسي ولم يمارس عليها أدنى رقابة وهو ما يعني أنّ هذه الديون غير ملزمة للشعب التونسي لأنّه لم يكن حرّا في بناء سياسته وكان غير مستقلّ وسيادي في اتّخاذ قراراته. ويقتضي المنطق أن نصل إلى أهمّ النتائج التي تستتبع تلك السياسة وهو أنّ تلك الديون لم تكن قرارا سياديا للشعب التونسي وعليه من المقبول سياسيا أن يمتنع عن تسديدها ما دام في السياسة مبدأ يقول إنّ السيادة الشعبية هي المرجع في صياغة المواقف الداخلية والخارجية للبلاد.
لا يمكن، إذن، الحديث عن سيادة حقيقية للشعب التونسي بعد الثورة طالما بقيت تونس خاضعة للضغوط المفروضة عليها من مختلف مؤسسات الدائنين. ولا يفوتنا في هذا الإطار التنويه إلى الوفود المتتالية التي حطّت رحالها في بلادنا بعد 14 جانفي 2011 قادمة من عواصم الشمال (فرنسا، بريطانيا، ايطاليا، اسبانيان الولايات المتحدة الأمريكية) ومن المؤسسات المالية (البنك الأوروبي للاستثمار...). هي وفود تصرّح لمختلف وسائل الإعلام بإعجابها بثورة الشعب التونسي وضرورة مساندته لكنّ حقائبهم تتضمّن ظروفا مالية لإقراضها و"برامج تعاون" تضمن عدم تجاوز الثورة التونسية الخطوط الحمراء المتمثّلة في فكّ الارتباط العضوي بالرأسمال العالمي وبناء السيادة الشعبية المستقلّة.
  1. الحجج الاقتصادية
يمكن أن نضيف إلى الحجّتين الأخلاقية والسياسية الداعمتين لمبدإ إلغاء الديون الخارجية لبلادنا حجة اقتصادية تزيد من مطلبنا قوّة ووجاهة.
إذا ما عدنا إلى بعض أرقام الديْن الخارجي لوجدناها تبرهن بقوّة على أنّ نظام التداين ليس عاملا لتمويل التنمية بقدر ما هو عائق أمام تحقيقها. ويمكن أن نستدلّ على ذلك بالجدول التالي الخاص بحصيلة التحويل الصافي (الفارق بين المبالغ المقترَضة والمبالغ المسدّدة)
حصيلة التحويل الصافي
حصيلة التحويل الصافي
المدّة
2766مليون دينار
1970 - 1987
6580 ـــ مليون دينار
1987 - 2009
تبرهن هذه الأرقام بوضوح كيف تحوّل نظام التداين من مصدر لتمويل التنمية إلى حدود سنة 1987، تاريخ بدء حكم ابن علي. إذ يمكن القول إنّ الديون قبل هذا التاريخ لم تكن عبئا كبيرا على الشعب التونسي باعتبار أنّ حصيلة التحويل الصافي كانت ايجابية. أمّا في فترة حكم ابن علي (1987- 2009) فقد أصبح التداين الخارجي عبئا ثقيلا وأصبح بمقتضى ذلك الشعب التونسي هو مَن يموّل مختلف الدائنين وسندنا في هذا المذهب أنّ التحويل الصافي طيلة هذه المدّة كان سلبيا. وتحوّل تبعا لذلك الدين من مصدر من مصادر تمويل التنمية إلى مكبح يعطّل طموح الشعب التونسي في بناء تنمية عادلة ومستديمة. وعليه فإنّ إلغاء هذه الديون مبرّر اقتصاديا مادام التونسيون قد سدّدوا هذه الديون (رأس المال والفائدة) وزيادة.
أضف إلى ذلك فقد شهدت نسبة الديون القصيرة المدى من إجمالي حجم الديون الخارجية ارتفاعا مذهلا إذا كانت هذه النسبة% 13،6 سنة 1997 لتصبح %22،9 سنة 2009.فهذا النوع من القروض هو أكثر كلفة من غيره نظرا لارتفاع نسب الفائدة. هذا إضافة إلى تقلّب قيمة العملة الصعبة التي يتمّ بها تسديد مختلف أصناف الديْن. كما يدلّ الارتفاع في نسبة الديون القصيرة المدى على أنّ ابن علي وحكومته قد كانا بحاجة ملحّة إلى الاموال انطلاقا من سنة 1997 لمجابهة نتائج أزمة اقتصادية لا يتحمّل الشعب التونسي أسبابها وفي حاجة إلى هذه الأموال إلى إحكام سيطرة ديكتاتوريته على المجتمع (وسائل قمع، شراء ذمم... الخ)
إنّ بناء اقتصاد جديد متحرّر من اعباء الديون أمر ممكن إذا سبق أن حصل في التاريخ إلغاء الديون الخارجية (الارجنتين، الاكوادور...) ولم تعرف تلك البلدان انهيارا اقتصاديا بل على العكس من ذلك كان إجراء الإلغاء رافعة إضافية لبناء اقتصادر قادر على تلبية مختلف الحاجيات الضرورية للسكان فضلا على أنّ التحرّر من عبء الدين يمكن أن يكون عاملا مهمّا في دعم البنى التحتية والاستثمارات العمومية وهما عاملان رئيسيان في بناء التنمية الذاتية ومن البديهي أنّ تحقيق مثل هذا الطموح أمر مستحيل في ظلّ استمرار النزيف المالي ومواصلة تسديد هذه الديون ذات الكلفة الباهظة. ثمّ إنّنا نجد في التاريخ القديم والحديث كذلك إلغاء للديون من طرف الدائنين أنفسهم أو بضغط من حكومات الشمال القويّة كما تمّ مع الديون العراقية إثر احتلاله من طرف الولايات المتحدة الأمريكية. ولم نسمع حديثا من هؤلاء عن إمكانية حصول انهيار اقتصادي بسبب ذلك الإلغاء وهو ما يؤكّد أنّ الحجّة الاقتصادية القائلة بأنّ الإلغاء أمر غير مأمون العواقب اقتصاديا حجة ضعيفة مقارنة مع ما بيّناه في هذه الفقرة.
  1. الحجج القانونية
يمكن الاستناد إلى العديد من حجج القانون الدولي لإقامة إلغاء قانوني للدين الخارجي من طرف واحد.وسنبيّن في ما يلي أهمّ هذه الحجج :
  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
جاء في البند الأوّل من الفصل 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما يلي :
"لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.
  • العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية
ورد في البند الأوّل من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما يلي :
" لجميع الشعوب حق تقرير س ثمصيرها بنفسها، وهى بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لجميع الشعوب، سعيا وراء أهدافها الخاصة، التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة وعن القانون الدولي. ولا يجوز في أية حال حرمان أي شعب من أسباب عيشه الخاصة.
. على الدول الأطراف في هذا العهد، بما فيها الدول التي تقع على عاتقها مسئولية إدارة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي والأقاليم المشمولة بالوصاية أن تعمل على تحقيق حق تقرير المصير وأن تحترم هذا الحق، وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
إنّ ما تنصّ عليه هذه النصوص القانونيّة من مستوى محترم للمعيشة وتلبية الخدمات الاجتماعية وحق تقرير المصير السيادة والحرية في النظام السياسي والسعي إلى تحقيق النماء الاقتصادي والاجتماعي حجة قويّة يمكن أن يتسلّح بها الشعب التونسي في مطالبته بإلغاء الديون الخارجية خصوصا وأنّ الثورة التونسية كانت ثورة اجتماعية بالأساس في شعاراتها وطموحها.
ويتضمّن القانون الدولي مبادئ أخرى وهي :

- حالة القوّة القاهرة

يمكن الاستناد إلى القوّة القاهرة للتوقّف عن مواصلة تسديد الديون. ويؤكّد مبدأ القوّة القاهرة على أنّه عندما تجد حكومة أو مؤسسة عمومية نفسها خاضعة رغما عنها إلى ضغوط خارجة عن نطاقها تمنعها من الالتزام بتعهّداتها الدولية والتي من بينها تسديد الديون فإنّ ذلك يبرّر انقطاعها عن التسديد..وتتعدّد مظاهر القوّة القاهرة كالحروب والكوارث الطبيعية وكلّ ما هو لاإرادي بالنسبة إلى الدولة المعنيّة. ويمكن في حالة بلادنا أن نستند إلى هذا المبدإ القانوني باعتبار أنّ الديكتاتورية التي عانى منها الشعب التونسي مثّلت قوّة قاهرة وخارجة عن إرادته. فكارثة الديكتاتورية التي ابتيلنا بها طيلة 23 سنة لا تقلّ نتائجها عن غير من الكوارث التي تجعل الشعوب إزاء قوّة قاهرة بأتمّ معنى الكلمة. وبالتالي لم تمكّن هذه الحالة الشعب التونسي من يصدر قرارا سياديالخاصا بالديون أو حتّى مراقبتها كما يمكن اعتبار أنّ رفع الدائنين لنسب الفائدة وخفض مؤسسات التصنيف العدد الخاص بتونس قوّة قاهرة لا شأن لتونس بها وعقاب لها على خلق حالة عدم الاستقرار بثورتها على الديكتاتور وطرده!!
- حالة الضرورة
يعني هذا المبدأ القانوني أنّ الدولة تجد نفسها أمام أوضاع اجتماعية خطيرة تهدّد ضمان الاستقرار الاجتماعي وتلبية مختلف الحاجيات الاجتماعية لمواطنيها. وهو ما تبدو عليه البلاد التونسية اليوم إذ إنّها بعد الثورة في حالة ضرورة قصوى تتمثّل خصوصا في تلبية مطالب التشغيل وتحسين مختلف الخدمات الاجتماعية وكان ذلك شعارا أساسيا من شعارات الثورة التونسية. إنّ مثل هذه المطالب والاستحقاقات ا لا يمكن أن تتحققّ في ظلّ تواصل النزيف المالي المترتّب عن استمرار خلاص الديون. وعليه يمكن الاستناد إلى مبدإ حالة الضرورة لتعليل فسخ الديون لأنّ تلك الضرورات الاجتماعية هي الأولوية الرئيسية للدولة التونسية حاليا خصوصا وإنّ الانقطاع عن التسديد لن يضرّ الدائنين في شيء أمّا استمراره فيعني عدم تحقيق تلك الأولويّة.
إنّ مبدأ حالة الضرورة ليس وجيها من ناحية المنطق فحسب بل تسنده التشريعات القانونية الدولية كذلك فقد تبنّت لجنة حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة قرارات عديدة حول إشكالية الديون والتكييف الهيكلي. وفي واحدة منها وقع تبنّيها سنة 1999 أكّدت اللجنة أنّ " ممارسة الحقوق الأساسية لشعوب البلدان المستدينة في الغذاء والمسكن والملبس والعمل والتعليم وخدمات الصحة والبيئة الطاهرة لا يمكن التخلّى عنها عند تطبيق سياسات التكييف الهيكلي والإصلاحات الاقتصادية امترتّبة عن الديون ".
كما جاء في حوليّة لجنة القانون الدولي في الامم المتحدة في المجلّد الأوّل الصادر سنة 1980 ما يلائم مبدإ حالة الضرورة بل يمكن القول الضرورة القصوى : «  لا يمكن أن ننتظر من دولة أن تغلق مدارسها وجامعاتها ومحاكمها وتتخلّى عن الخدمات الاجتماعية إلى حدّ تسلّم فيه سكانها إلى الفوضى وذلك ببساطة لتوفير الأموال اللازمة لتسديدها إلى الدائنين الأجانب أو المحليين".
كما لا يفوتنا التنبيه إلى أنّ التدفّق الكبير لللاجئين القادمين من ليبيا نحو البلاد التونسية وما تستوجبه هذه الحالة الاستعجالية من تمويل إضافي يمكن وضعه في إطار حالة الضرورة.
- الديون المريبة (الكريهة)
يعترف القانون الدولي بضرورة الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام الذي أبرم القروض واستخدامه للأموال التي تمّ الحصول عليها. ويستتبع ذلك مسؤولية مباشرة للدائنين كالمؤسسات الخاصة أو المؤسسات المالية الدولية. فإذا ما تمّ استبدال نظام ديكتاتوري بنظام شرعي فإنّه يمكن لهذا الأخير أن يبرهن على أنّ الديون لم يقع إبرامها لفائدة الوطن أو أنّها كانت لغايات مريبة. وفي هذه الحالة يمكن إبطال هذه الديون ولا يكون على السلطات الجديدة تسديدها. أمّا الدائنون فما عليهم إلاّ أن يحمّلوا المسؤولية إلى قادة الديكتاتورية شخصيا. وعلى صندوق النقد الدولي والبنك العالمي أو أيّ دائن آخر أن يراقبوا أنّ القروض المعطاة تمّ استخدامها شرعيا خاصّة وأنّهم لا يمكن أن ينكروا أنّهم يتعاملون مع نظام غير شرعي.
إنّ التعريف المذكور أعلاه للديون الكريهة ينطبق تماما على حالة البلاد التونسية. فقد كانت المؤسسات الدائنة تموّل ديكتاتورية ابن علي وسلطة غير شرعية وهي على علم بذلك وجميعهم صرّح بأنّ ابن علي كان ديكتاتورا وجميعهم عبّروا عن فرحتهم لقدرة الشعب التونسي على التخلّص منه أمّا المسكوت عنه من طرف هؤلاء الدائنين هو أنّهم يتحمّلون المسؤولية كاملة في سخائهم مع هذا الديكتاتور بتمويله بقروض ذات مبالغ طائلة وإكراه الشعب التونسي على خلاصها في آجالها على حساب تشغيل أبنائه وغير ذلك من الحاجيات الاقتصادية والاجتماعية الملحّة. وماذا عساهم فاعلون إذا ما أخرجنا لهم من الأرشيف شهادات الإطراء والمدح التي قدّموها لتلميذ الأمس النجيب وديكتاتور اليوم؟!!
يمكن للسلطات الجديدة بعد الثورة أن تستند إلى هذا القانون لإلغاء تسديد ديون لا يتحمّل الشعب التونسي مسؤوليتها ولا يوجد أي مسوّغ قانوني يفرض عليه تحمّل اعباء هذه الديون المريبة. وفي التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة لدول استندت إلى هذا المبدإ القانوني في انقطاعها عن تسديد الديون الخارجية. ويمكن في هذا الاطار -بعد اتّخاذ قرار وقف التسديد- تشكيل لجنة شعبية ومواطنية تفرز حجم هذه الديون الكريهة التي لم يستفد منها الشعب التونسي بقدر ما كانت اختلاسا من الديكتاتورية أو مصدرا لتمويل قمع الشعب التونسي بمختلف الطرق والآليات.
إنّ القانون الدولي إذن ثريّ بالمبادئ القانونية التي يمكنها أن تسمح، وقد سمحت بعد في الماضي، بالتأسيس لإلغاء الديون أو إبطالها. وهكذا نرى أنّ مبادئ القانون الدولي هي في صالح الثورة التونسية إذا ما تبنّت الحكومة المؤقتة مطلب الانقطاع عن التسديد ورفضت قبول قروض جديدة تزيد من خطورة النزيف المالي كما يريد ذلك الدائنون الأغنياء الذين يريدون إقناعنا أنّه يمكن معالجة الداء بالداء! والحال أنّنا نجحنا في تشخيص الداء ونملك الوصفة الملائمة للدواء..!
5 – الحجج الدينيّة (6)
لقد انشغلت تعاليم مختلف الأديان بمشكل الدين.
الإنجيل
يتضمّن الإنجيل مفهوم اليوبيل ويتمثّل هذا المفهوم في التبرئة من الديْن في سنة استثنائية كلّ خمسين عاما.
وتكون سنة اليوبيل هذه مصاحبة بإجراءات اجتماعية من قبيل استراحة الأرض (la jachère) وعتق العبيد وطرح الديون.
وهكذا يُشرّع اقتراض الأموال لتأمين المعاش بشرط أن يكون دون فائدة وفي حدود سبعة أعوام. وتقع التبرئة من الديون في نهاية هذه الفترة وإذا ما تدهورت وضعية أحدهم إلى درجة يضطر فيها إلى بيع متاعه لإنقاذ معاشه فيصبح بذلك عبدا فإنّه يجب أن يستعيد حريته ما أن تنقضي السنوات السبع.
القرآن
يستوجب مجال التجارة والتبادل، حسب النصّ المؤسس في الإسلام، وسم الربا ببعد اجتماعي وأخلاقي، وبذلك فهو يحرّم تلك الفائدة المسمّاة ربا.
ويعتبر الإسلام الربا حراما لأنّ الصعوبات التي يواجهها المستدين تتيح للدائن ثراء دون أن يبذل جهودا.
" وأحلّ اللّه البيع وحرّم الربا "
البقرة- 275
" وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تَصَدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون "
البقرة- 280
" يا أيّها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون "
آل عمران- 130
تلك هي الأسباب، نظريا، التي تجعل البنوك الإسلامية مؤسّسة على مبادئ مختلفة مقصية الالتجاء إلى الفائدة.
إضافة إلى ذلك
إنّ إلغاء الدين أمر متواتر في العصور اليونانية أو الرومانية القديمة وفي الثقافة اليهودية.
» لقد كان إلغاء الديون في العصور اليونانية القديمة وفي عهد المسيح أيضا، إضافة إلى ذلك فعلا سياسيا محدّدا وذكيا وشائعا يهدف إلى منع قيام الحروب الأهلية وإعادة تأسيس الوئام بين الطبقات الاجتماعية. وبالفعل وفي ظلّ دينامية تنامي اللامساواة بين الأغنياء والفقراء، إلى ذلك الحدّ الذي يعجز فيه الفقراء عن تأمين معاشهم فيضطرون إلى التداين من الأغنياء وهو ما يؤدّي حتما إلى نظام اجتماعي قائم على الرقّ أو إلى الحرب الأهلية وتدمير المدينة. ولا يستوجب الأمر البحث عن سبب هذا الأثر للديْن فقط، والذي هو في كلّ الأحوال قاتل للمدينة ولكن كذلك إلغاؤه جذريا كي يعاد الانطلاق على أسس ملائمة.
وهكذا يكون إلغاء الديون موضوعا سياسيا مشتركا بين الثقافة اليونانية والثقافة اليهودية. فسنة اليوبيل في التقاليد اليهودية هي بالتحديد سنة إلغاء كلّ الديون القائمة كلّ خمسين سنة وهو ما يعني إعفاء أغلبية السكان الفقراء وبالتالي المستدينين ويحرّر الشعب من الاسترقاق.
هذه مجموعة من الحجج التي يمكن للحملة التي نعتزم تفعيلها لتجميد تسديد الديون في مرحلة أولى وبغث لجنة تحقيق شعبية ومواطنية لفرز الأقساط المريبة من تلك الديون وإن كانت مختلف ديون الديكتاتور مريبة في حقيقة الأمر لتحالفه مع الدائنين في مصادرة سيادة الشعب التونسي وإثقال كاهله بأعباء مالية لا يتحمّل مسؤوليتها...
لا شكّ أنّ التحليل والنقاش والاستدلال أمر في غاية الاهمية ولكنّه غير كاف إذا ما لم يكون مقترنا بالحركة والفعل الميدانيين. فخطّتنا في هذه الحملة :
افهم، اضغط،اعمل،غيّر موازين القوى!!!
................................
مختار بن حفصة
13 مارس 2011
- actionsolidairesinternationales :http://actionsolidairesinternationales.wordpress.com/
  1. أخذت هذه الفقرات من كتاب : خدعة الديون. تأليف إريك توسان وداميان مييه، ترجمة مختار بن حفصة. ومراجعة رندة بعث.ط1 دار الطليعة الجديدة دمشق 2005

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire